بقلم :يوسف حسين
إن لكل إنسان عمودين، إن مال أحدهما آل سقفك للانهيار، فما بالك إن وقع كلاهما؟!!
كان أبي دائما ينعتني بالفاشل -على الرغم من أنني كنت الأول على دفعتي طوال فترة دراستي-، ربما كان يضغط على وتر العند داخلي؛ فأنا شخص أستطيع امتطاء القمر بعقلي، ولا أستطيع تحريك قدميّ إن كان هذا من باب الاستفزاز.
دائما كانت تنشب المعارك بيننا بسبب تلك الكلمة، إلا إننا أخيرا اتفقنا على أمر ما، كان هذا الأمر كجرعة أمان مكثفة أحيت حبه داخلي، بعد أن ظننت موته بعنادي واستفزازه لي.
لا أخفيكم سرا، لن أتحدث عنه البتة، سأجعلكم تعرفونه دون أن أنوّه عنه، والآن لنرى العمود الآخر …
ذات يوم شعرت أمي بالبرد، هذا طبيعي، وخصوصا مع نساء الدوار، فإن البرد لديهن لا يؤبه به كنسمة هواء باردة في خريف قاتم، لكن غير المعتاد أن تسلم جسدها للفراش، مما أفزعنا جميعا وجعلنا نستدعي لها طبيبا، كان حضوره منزلنا أشبه بدخول هندوسيٍ مسجدا..
طمأننا الطبيب وذهب، لكنها ظلت مستكينة بالفراش، ما يقرب الشهرين، ولأننا تعودنا ألا نأكل إلا من يدها أصبحنا جوعى كأسرى حرب، متسخة ثيابنا كمساجين، لقد خيم الحزن علينا جميعا، ونحن ثمان أفراد، لا نفقه شيئا، هذا الأمر جعل والدي يطلق لحيته وهو الذي كان يداعب بذقنه شفرة الحلاقة يوما بعد يوم.
حين اشتدت سخافة الموقف عليه ولم يعد يصدق أن نزلة البرد تجعل أمي طريحة الفراش كل هذه المدة، طرق باب غرفتي، رآني أجلس على سريري، ابتسم في وجهي ابتسامة حزينة، واستأذن في الدخول، أصابتني وخزة قوية في قلبي وانتفض جسدي خوفا وهلعا، لم أعتد منه أن يستأذن في الدخول عليّ. قمت منتفضا من مكاني، ووقفت أمامه أتأمله وركبتاي تتصارعان تخبطا، ربت كتفي ثم أشار لي بالجلوس، فجلست على استحياء أنظر إليه.
بدأ حديثه معي بسؤال:
-أيروق لك ما تفعله أمك؟!
أخيرا تنهدت بارتياح، وطردت الخوف من داخلي، قائلا بصدق ممزوج بالابتسام:
-لا والله، لا يروقني.
ثم أتممت حديثي متسائلا:
-أتريد حلا؟!
شعر حينها أنني أستهزئ به، فلطم وجهي بمزاح، واستطرد بغيظ مكتوم:
-أتهزأ بي يا فاشل؟!!
نفرت عروق وجهي، واستويت أمامه واقفا:
-إنك لا تعرف، كما للنساء كيد فإن للرجال أيضا كيدا، وما تفعله أمي بنا هو الكيد ذاته، وإن أردت الحل فانصت إليّ جيدا، وإن نجحت خطتي فلا تنعتني بالفاشل أبدا.
حينها فجرت داخله الغيظ، فز من مكانه واقفا ورفع يده عاليا، وبدل أن يصفع خدي صفع فخذه، ثم نظر إليّ بعد أن طرد الغيظ بزفرة قوية.
أشرت له بالجلوس، ففعل، أخذت نفسا عميقًا وزفرته بانتصار؛ فهذه هي المرة الأولى التي شعرت فيها أنني لا أتعامل معه كأبي، بل كصاحبي؛ وضعت يدي فوق يده مطمئنًا له وقلت:
-أنت تعلم أنني بلغت من العمر السادس والعشرين، ومن هم في مثل عمري الآن لديهم طفل واثنان.
كنت أتحدث وأنا أراقب ملامح وجهه، لقد رأيت ألوان الطيف السبع يبدلون لونه، لكن إصراري على تنفيذ خطتي كان الأهم؛ أكملت حديثي بلهفة حين استشعرت أن الكيل قد فاض به:
-ستذهب الآن إلى غرفتها، لا تلق عليها سلاما، ولا تسألها عن حالها، فقط اجلس وداعب سيجارتك بشفتيك، وحين تلمحني أخرج إلى الشارع نادِ عليّ، سأنتبه إليك وأعود لأقف أمامك منصتا، تبدأ حديثك:
-أمك قد سكنها المرض، فسكنت الفراش، وأخوتك مازالوا صغارا يحتاجون رعاية، ولا بد أن نزوجك، فاختر لك عروسا.
نهض عن مقعده، وقد غلا الدم في عروقه، فلم يستطع أن يكتم غضبه داخله أكثر من ذلك، وانهال عليّ بالشتائم والكلمات النابية، وكأنه برميل متفجرات وانفجر، لا أستطيع أن أكتب لكم ما قاله، سوى جملة واحدة، تلك التي خلت من الشتائم: “أنت تريد الزواج يا فاشل”.
تركته حتى هدأت ثورته، وابتسمت في وجهه نافيا ما قال، ثم دعوته للجلوس مرة أخرى والإنصات لي، بالفعل أنصت دون أن يدري.
استأنفت حديثي:
-بالطبع سأرفض عرضك، متعللا ببناء مستقبلي، فتصر على رأيك وأصر على رأيي، وحين يحتد النقاش بيننا، تخيرني:
-إما أن تتزوج أنت وإما أن أتزوج أنا.
أخيرا لمحت حوريات من الجنة يرقصن في عينيه، ثم أومأ لي برأسه موافقا وانصرف؛ لم ألبث دقائق في غرفتي حتى ناداني كما اتفقنا:
-يوسف.
وقفت أمامه دون أن أرد، فقال:
-اجلس.
ثم بدأ بتنفيذ الخطة، حتى وصل إلى تلك الجملة الاختيارية “إما أن تتزوج أنت وإما أن أتزوج أنا”.
لم يكن الجواب مني هذه المرة، بل كان من أمي بصوت جهوري، بعد أن نفضت الفراش عنها وانتصبت واقفة؛ وكأنها قائد في معركة، تحث الجنود على القتال:
-حسين، ماذا تريد أن تأكل على الغداء اليوم؟؟
نظر أبي إليّ ضاحكا، ثم وجه حديثه لأمي:
-ما يطلبه عزيزنا أمر واجب النفاذ.
طلبت حينها من أمي أن تذبح لنا من البط تسعة، لكل فرد منا واحدة، ففعلت .. أي نعم، لم نأكله إلا في اليوم الثالث من ذبحه فقد استغرق إعداده يومين، إلا أن السعادة قد رقصت داخل أرواحنا من جديد، لا أذكر بعدها أن أمي قد استدعاها المرض مجددا، لا تزال واقفة شامخة كنخلة حتى بعد وفاة أبي، ولا أستبعد أن تموت أيضا واقفة.