بقلم:فهد عبدالله
السلام عليكم ورحمة الله. عام 2015 وقعت معي قصة أغرب من الغرابة، سأحكي لكم اليوم تفاصيلها العجيبة والتي لن أنساها طوال حياتي.منذ طفولتي كان لي صديقان: كمال وياسين، ودامت هذه الصداقة لسنوات وهي باقية إلى الآن. منذ كنا يافعين عشقنا السفر والتخييم، فأخذنا عدة مغامرات واستكشفنا عدة أماكن، وخيّمنا في عدة مناطق طبيعية. سمعنا عن منطقة تُسمى “الكاتدرال” بنواحي أزيلال في الأطلس، تتميز بطبيعتها البكر الساحرة والتي يزورها قلة من عشاق السياحة الجبلية. فقررنا زيارة المنطقة، ولم نكن نعلم أننا سنمضي هناك لحظات صعبة جدًا.حملنا حقائبنا على ظهورنا وخرجنا من مدينتنا على متن حافلة مهترئة لكنها تفي بالغرض لتوصيلنا إلى وجهتنا. كان الطريق طويلًا ومتعبًا، لكن كل شيء يهون أمام حب السفر والمغامرة. وصلنا إلى “الكاتدرال”، جنة فوق الأرض: جبال مكسوة بالخضرة، أشجار باسقة، وجداول وأنهار، هواء منعش ونسيم عليل. متعة ما بعدها متعة! بحثنا عن مكان لننصب فيه خيامنا، ولم يطل بحثنا كثيرًا. وجدنا مكانًا هادئًا بعيدًا عن أعين الناس، وسط منظر طبيعي خلاب تحيط بنا الغابة من كل اتجاه.لما حل الليل ازداد الجو برودة، فأشعلنا نارًا ثم تحلقنا حولها. وضعنا القدر على النار وبدأنا في طبخ قطع من الدجاج مع البصل والبطاطس. كانت الأجواء رائعة وممتعة ونحن نتبادل الطرائف والضحكات. في لحظة سمعنا خشخشة قادمة من خلف الأشجار، فتوقفنا عن الكلام وأصغينا. حمل كمال عصًا واستعد لمواجهة أي خطر. بدأ الصوت يقترب شيئًا فشيئًا، أحسست بالخوف يجتاحني، وقد بدا القلق على صديقيّ أيضًا.ثم ظهر لنا كلب أسود اللون، ومن ورائه رجل عجوز يضع عمامة صفراء على رأسه، وقد ابيضت لحيته وشعره المنسدل على كتفيه. كان ظهره مقوسًا، ويبدو أن عمره تجاوز المئة. أشرت إلى كمال أن يضع العصا من يده، فهذا مجرد رجل كبير في السن. نظر إلينا مبتسمًا ثم قال: “أرجو أن أكون قد أخفتُ بمروري المفاجئ من هنا”. قلنا له ونحن نحاول إخفاء توترنا: “لا عليك يا عم، لم نُخفْ… ليس هناك مشكل”.قال الرجل إن اسمه عبد الكريم، ويسكن قرب المكان الذي خيّمنا فيه. ولما سمع كلامنا وضحكاتنا التي كانت تتردد صداها في الأرجاء، خرج من بيته ليرانا. اقترب الرجل الشيخ بخطوات متثاقلة وهو يتكئ على عصاه. إحدى عينيه بيضاء لا بؤبؤ فيها، يبدو أنه نصف أعمى لذلك يستخدم عصاه ويمشي ببطء شديد. أشفقت على الرجل وحسبته كجد لي. أخرجت علبة حلويات وقدمت له، أمسكها من يدي وهو يشكرني ويدعو لي، ثم وضعها في جيب جلبابه.بعد ذلك جلس الرجل بالقرب مني ثم مد يديه كأنه يستدفئ أيضًا في هذه الليلة الباردة. قال لنا: “لما يا أبنائي تركتم كل الأماكن القريبة من الطريق حيث يراكم الناس، وجئتم إلى هنا في هذا المكان الخفي؟”. فقال له ياسين: “هذا عين المطلوب! نريد أن نبتعد عن الناس وضوضاء الطريق، نحن هنا لنرتاح ونعيش ما أمكن بأنفسنا وسط الطبيعة”. نظر الشيخ عبد الكريم إلى النار وهو يقول: “كلما كان المكان بعيدًا عن الناس، فهو أقرب ما يكون لأهل الأرض…” دون ذكر اسمهم. فقلت له: “من تقصد يا عم؟”.فقال لي: “الخلق الآخر الذي قد يرانا ولا نراه، لن يؤذونا إلا إذا تعدينا حدودنا ودخلنا حرمه”. فهمت أن العم عبد الكريم يتحدث عن الجن.عندها قال كمال: “لكن يا عم، لقد سافرنا إلى عدة مناطق وأمضينا أيامًا وليالي في جبال وصحاري وغابات، ولم نرَ شيئًا! لم يسبق أن تعرض لنا أي جني”. ثم قال ياسين: “نعم، وأضيف أيضًا أن الإنس أقوى من الجن، ولهذا لن يستطيعوا أن يؤذونا بشيء”. مرت لحظات من الصمت والعم عبد الكريم ينظر إلى النار، ثم قال: “لا أحد أقوى من أحد إلا بقدر حماية الله للعبد. ومن اعتدى فإنما يعتدي على نفسه”. ثم قام الرجل…وقبل أن يغادر، أخرج من جيبه شيئًا وقدمه لي، كان أشبه بقطعة جلد مطوية كأنها رسالة من زمن غابر. وقال لي: “كما أهديتني علبة الحلوى، فأنا أُهديك هذه. ضعها في حقيبتك ولا تهملها”. ثم مشى بخطوات رصينة قبل أن يلتفت نحونا ويقول: “أوصيكم ألا تتوغلوا أكثر في هذه الغابة. مهما سمعتم من أصوات فلا تلتفتوا لها. مادمتم هنا فأنتم في مأمن”. ثم ذهب العم عبد الكريم في حال سبيله، والكلب الأسود يتبعه.وضعت قطعة الجلد التي أعطانيها في حقيبتي الصغيرة التي لا تفارقني. بعدها سمعت كمالًا يقول ساخرًا: “هذا الرجل يبدو أنه صار يخرف! يحذرنا من الجن وكأن الجن لا هم لهم سوى ملاحقة البشر! أي عقلية هذه؟”. رأيت ياسين قد وافق كمالًا في رأيه، فقلت لهما: “ربما كان الرجل على حق، هو يعيش هنا وهو أعلم منا بخبايا هذا المكان. فعلينا أن نحذر”. احتدم الخلاف بيننا، ثم قررنا أن ننهي هذا النقاش ونعود إلى ما كنا فيه قبل مجيء الرجل الغريب.استمر السمر إلى وقت متأخر من الليل، ثم خلدنا للنوم. في اليوم الموالي، حملنا أمتعتنا ثم قمنا بجولة في المنطقة: طبيعة تفوق الوصف، وديان جارية وسط مروج تعج بالحياة وتنبض بالجمال. نسينا تحذير العم عبد الكريم، وتعمقنا داخل الغابة أكثر فأكثر، وقررنا أن نبيت ليلتنا هناك. وجدنا مكانًا مناسبًا للتخييم، وضعنا الخيمة ثم انهمكت أنا وياسين في إعداد الطعام، أما كمال فكان مكلفًا بجمع الحطب وإشعال النار.كان السكون يعم المكان، والظلام يحيط بنا بين الأشجار الباسقة الكثيفة. فجأة بدأنا نسمع صوتًا كأنه صوت غناء ومعازف قادمًا من جهة ما من الغابة. توقف كل منا عما كان يفعله، ثم سأل بعضنا بعضًا: “ما مصدر هذه الأصوات؟”. كانها دفوف تُضرب في إيقاع واحد، وأصوات رجالية تغني كأنها اهازيج بربرية لكنها غريبة، لم نسمع مثلها من قبل.قال ياسين: “ربما هناك مجموعة تخيم قريبًا من هنا”. فقلت له مستغربًا: “لقد طفنا بالغابة طوال النهار، لكننا لم نلتقِ أي مخيمين!”. فقال كمال: “لعله عرس لأحد سكان المنطقة”. فأجابه ياسين: “لا، لا يوجد أي سكان في هذه الغابة! ولا تنس أننا الآن في وسط الغابة ولسنا في أطرافها”. لم نستطع إخفاء فضولنا لمعرفة من أين تأتي هذه الأصوات، ومن يحتفل بالجوار.كنت أضع حقيبتي الصغيرة على ظهري. حمل كمال هاتفه، وياسين كاميرته، ثم أغلقنا الخيمة وانطلقنا لندخل أكثر في الغابة، نتبع مصدر الغناء والضرب على الدفوف. كان يدفعنا الفضول، وأغلب ظننا أنه عرس في أحد الدواوير، ولعلنا نصيب معهم عشاء ونمضي وقتًا طيبًا. أكملنا المسير بين الحشائش والأشجار نتوغل في الأدغال، لكن الغريب أننا كلما اقتربنا من الصوت كان الصوت يبتعد ويصير أبعد منا. لكننا صممنا على إيجاد المحتفلين والاحتفال معهم.وبعدما ابتعدنا كثيرًا عن مكان خيامنا، لاح لنا من بعيد نار مشتعلة، والصوت قادم من جهتها. ثم ظهر لنا كان هناك أناسًا يرقصون حول النار، وصوت غنائهم ودفوف كان قويًا وواضحًا. لكن لفت انتباهي أنهم كانوا يغنون بلغة غير مفهومة، ليست عربية ولا تشبه الأمازيغية. ولما اقتربنا أكثر، أحسست بقشعريرة تجتاح كل جسدي وشعور غريب بداخلي. فتوقفت عن المسير وأوقفت صديقيّ. قلت لهما: “هناك أمر مريب في هذا المكان، والمريب أكثر هو هذه الحفلة في وسط الغابة. شيء ما غير عادي!”.لم يلتفت الصديقان لتحذيري وتنبيهي لهما، فقد استبد بهما الفضول. أما أنا فقد استبد بي الخوف، وقلت لهما: “علينا الرحيل! علينا العودة إلى السلام عليكم ورحمة الله. عام 2015 وقعت معي قصة أغرب من الغرابة، سأحكي لكم اليوم تفاصيلها العجيبة والتي لن أنساها طوال حياتي. منذ طفولتي كان لي صديقان: كمال وياسين، ودامت هذه الصداقة لسنوات وهي باقية إلى الآن. منذ كنا يافعين عشقنا السفر والتخييم، فأخذنا عدة مغامرات واستكشفنا عدة أماكن، وخيّمنا في عدة مناطق طبيعية. سمعنا عن منطقة تُسمى “الكاتدرال” بنواحي أزيلال في الأطلس، تتميز بطبيعتها البكر الساحرة والتي يزورها قلة من عشاق السياحة الجبلية. فقررنا زيارة المنطقة، ولم نكن نعلم أننا سنمضي هناك لحظات صعبة جدًا. حملنا حقائبنا على ظهورنا وخرجنا من مدينتنا على متن حافلة مهترئة لكنها تفي بالغرض لتوصيلنا إلى وجهتنا. كان الطريق طويلًا ومتعبًا، لكن كل شيء يهون أمام حب السفر والمغامرة. وصلنا إلى “الكاتدرال”، جنة فوق الأرض: جبال مكسوة بالخضرة، أشجار باسقة، وجداول وأنهار، هواء منعش ونسيم عليل. متعة ما بعدها متعة! بحثنا عن مكان لننصب فيه خيامنا، ولم يطل بحثنا كثيرًا. وجدنا مكانًا هادئًا بعيدًا عن أعين الناس، وسط منظر طبيعي خلاب تحيط بنا الغابة من كل اتجاه. لما حل الليل ازداد الجو برودة، فأشعلنا نارًا ثم تحلقنا حولها. وضعنا القدر على النار وبدأنا في طبخ قطع من الدجاج مع البصل والبطاطس. كانت الأجواء رائعة وممتعة ونحن نتبادل الطرائف والضحكات. في لحظة سمعنا خشخشة قادمة من خلف الأشجار، فتوقفنا عن الكلام وأصغينا. حمل كمال عصًا واستعد لمواجهة أي خطر. بدأ الصوت يقترب شيئًا فشيئًا، أحسست بالخوف يجتاحني، وقد بدا القلق على صديقيّ أيضًا. ثم ظهر لنا كلب أسود اللون، ومن ورائه رجل عجوز يضع عمامة صفراء على رأسه، وقد ابيضت لحيته وشعره المنسدل على كتفيه. كان ظهره مقوسًا، ويبدو أن عمره تجاوز المئة. أشرت إلى كمال أن يضع العصا من يده، فهذا مجرد رجل كبير في السن. نظر إلينا مبتسمًا ثم قال: “أرجو أن أكون قد أخفتُ بمروري المفاجئ من هنا”. قلنا له ونحن نحاول إخفاء توترنا: “لا عليك يا عم، لم نُخفْ… ليس هناك مشكل”. قال الرجل إن اسمه عبد الكريم، ويسكن قرب المكان الذي خيّمنا فيه. ولما سمع كلامنا وضحكاتنا التي كانت تتردد صداها في الأرجاء، خرج من بيته ليرانا. اقترب الرجل الشيخ بخطوات متثاقلة وهو يتكئ على عصاه. إحدى عينيه بيضاء لا بؤبؤ فيها، يبدو أنه نصف أعمى لذلك يستخدم عصاه ويمشي ببطء شديد. أشفقت على الرجل وحسبته كجد لي. أخرجت علبة حلويات وقدمت له، أمسكها من يدي وهو يشكرني ويدعو لي، ثم وضعها في جيب جلبابه. بعد ذلك جلس الرجل بالقرب مني ثم مد يديه كأنه يستدفئ أيضًا في هذه الليلة الباردة. قال لنا: “لما يا أبنائي تركتم كل الأماكن القريبة من الطريق حيث يراكم الناس، وجئتم إلى هنا في هذا المكان الخفي؟”. فقال له ياسين: “هذا عين المطلوب! نريد أن نبتعد عن الناس وضوضاء الطريق، نحن هنا لنرتاح ونعيش ما أمكن بأنفسنا وسط الطبيعة”. نظر الشيخ عبد الكريم إلى النار وهو يقول: “كلما كان المكان بعيدًا عن الناس، فهو أقرب ما يكون لأهل الأرض…” دون ذكر اسمهم. فقلت له: “من تقصد يا عم؟”. فقال لي: “الخلق الآخر الذي قد يرانا ولا نراه، لن يؤذونا إلا إذا تعدينا حدودنا ودخلنا حرمه”. فهمت أن العم عبد الكريم يتحدث عن الجن. عندها قال كمال: “لكن يا عم، لقد سافرنا إلى عدة مناطق وأمضينا أيامًا وليالي في جبال وصحاري وغابات، ولم نرَ شيئًا! لم يسبق أن تعرض لنا أي جني”. ثم قال ياسين: “نعم، وأضيف أيضًا أن الإنس أقوى من الجن، ولهذا لن يستطيعوا أن يؤذونا بشيء”. مرت لحظات من الصمت والعم عبد الكريم ينظر إلى النار، ثم قال: “لا أحد أقوى من أحد إلا بقدر حماية الله للعبد. ومن اعتدى فإنما يعتدي على نفسه”. ثم قام الرجل… وقبل أن يغادر، أخرج من جيبه شيئًا وقدمه لي، كان أشبه بقطعة جلد مطوية كأنها رسالة من زمن غابر. وقال لي: “كما أهديتني علبة الحلوى، فأنا أُهديك هذه. ضعها في حقيبتك ولا تهملها”. ثم مشى بخطوات رصينة قبل أن يلتفت نحونا ويقول: “أوصيكم ألا تتوغلوا أكثر في هذه الغابة. مهما سمعتم من أصوات فلا تلتفتوا لها. مادمتم هنا فأنتم في مأمن”. ثم ذهب العم عبد الكريم في حال سبيله، والكلب الأسود يتبعه. -وضعت قطعة الجلد التي أعطانيها في حقيبتي الصغيرة التي لا تفارقني. بعدها سمعت كمالًا يقول ساخرًا: “هذا الرجل يبدو أنه صار يخرف! يحذرنا من الجن وكأن الجن لا هم لهم سوى ملاحقة البشر! أي عقلية هذه؟”. رأيت ياسين قد وافق كمالًا في رأيه، فقلت لهما: “ربما كان الرجل على حق، هو يعيش هنا وهو أعلم منا بخبايا هذا المكان. فعلينا أن نحذر”. احتدم الخلاف بيننا، ثم قررنا أن ننهي هذا النقاش ونعود إلى ما كنا فيه قبل مجيء الرجل الغريب. استمر السمر إلى وقت متأخر من الليل، ثم خلدنا للنوم. في اليوم الموالي، حملنا أمتعتنا ثم قمنا بجولة في المنطقة: طبيعة تفوق الوصف، وديان جارية وسط مروج تعج بالحياة وتنبض بالجمال. نسينا تحذير العم عبد الكريم، وتعمقنا داخل الغابة أكثر فأكثر، وقررنا أن نبيت ليلتنا هناك. وجدنا مكانًا مناسبًا للتخييم، وضعنا الخيمة ثم انهمكت أنا وياسين في إعداد الطعام، أما كمال فكان مكلفًا بجمع الحطب وإشعال النار. كان السكون يعم المكان، والظلام يحيط بنا بين الأشجار الباسقة الكثيفة. فجأة بدأنا نسمع صوتًا كأنه صوت غناء ومعازف قادمًا من جهة ما من الغابة. توقف كل منا عما كان يفعله، ثم سأل بعضنا بعضًا: “ما مصدر هذه الأصوات؟”. كانها دفوف تُضرب في إيقاع واحد، وأصوات رجالية تغني كأنها اهازيج بربرية لكنها غريبة، لم نسمع مثلها من قبل. قال ياسين: “ربما هناك مجموعة تخيم قريبًا من هنا”. فقلت له مستغربًا: “لقد طفنا بالغابة طوال النهار، لكننا لم نلتقِ أي مخيمين!”. فقال كمال: “لعله عرس لأحد سكان المنطقة”. فأجابه ياسين: “لا، لا يوجد أي سكان في هذه الغابة! ولا تنس أننا الآن في وسط الغابة ولسنا في أطرافها”. لم نستطع إخفاء فضولنا لمعرفة من أين تأتي هذه الأصوات، ومن يحتفل بالجوار. كنت أضع حقيبتي الصغيرة على ظهري. حمل كمال هاتفه، وياسين كاميرته، ثم أغلقنا الخيمة وانطلقنا لندخل أكثر في الغابة، نتبع مصدر الغناء والضرب على الدفوف. كان يدفعنا الفضول، وأغلب ظننا أنه عرس في أحد الدواوير، ولعلنا نصيب معهم عشاء ونمضي وقتًا طيبًا. أكملنا المسير بين الحشائش والأشجار نتوغل في الأدغال، لكن الغريب أننا كلما اقتربنا من الصوت كان الصوت يبتعد ويصير أبعد منا. لكننا صممنا على إيجاد المحتفلين والاحتفال معهم. وبعدما ابتعدنا كثيرًا عن مكان خيامنا، لاح لنا من بعيد نار مشتعلة، والصوت قادم من جهتها. ثم ظهر لنا كان هناك أناسًا يرقصون حول النار، وصوت غنائهم ودفوف كان قويًا وواضحًا. لكن لفت انتباهي أنهم كانوا يغنون بلغة غير مفهومة، ليست عربية ولا تشبه الأمازيغية. ولما اقتربنا أكثر، أحسست بقشعريرة تجتاح كل جسدي وشعور غريب بداخلي. فتوقفت عن المسير وأوقفت صديقيّ. قلت لهما: “هناك أمر مريب في هذا المكان، والمريب أكثر هو هذه الحفلة في وسط الغابة. شيء ما غير عادي!”. لم يلتفت الصديقان لتحذيري وتنبيهي لهما، فقد استبد بهما الفضول. أما أنا فقد استبد بي الخوف، وقلت لهما: “علينا الرحيل! علينا العودة إلى…”. فقال لي كمال: “لقد أوشكنا على الوصول، فلماذا نعود وقد قطعنا كل هذه المسافة؟”. قال ياسين موافقًا لكمال: “أما أنا فلن أرجع، ولو بقيت لوحدي!”. فلما رأيت إصرارهما على المضي قدمًا، قلت لهما: “إن كان لا بد، فعلينا أولًا أن نقترب بحذر، ثم نكون في مكان يطل على هؤلاء المحتفلين. فإن أمناهم ولم نرَ منهم سوءًا، ذهبنا إليهم، وإلا عدنا أدراجنا”. وافق كمال وياسين على كلامي، فصعدنا مرتفعًا وصرنا في مكان نطل منه على الحفل. كان صوت الدفوف والاهازيج ما يزال يصدح ويردد في المكان. بدا لنا القوم كأنهم في عرس، وظهر لنا أنهم أناس بسطاء من أهل المنطقة. لاحظت أن معظمهم يلبس لباسًا أخضر اللون، وظهر العروسان بلباس أبيض مميز عن الجميع. وبينما نحن نراقب المشهد، التفت ياسين نحوي وقال: “ما رأيك الآن؟ الأمور عادية، وأنت متوجس وخائف! لقد أثّر فيك كلام الشيخ الذي لا يدري ما يقول!”. ثم قال كمال: “هيا لننزل ونحتفل مع القوم، حتمًا سيحبوننا، وربما تناولنا العشاء معهم!”. فقلت في نفسي: “لعلّي فعلاً بالغت في مخاوفي”. ثم قلت لصديقيّ: “هيا بنا!”. مشينا نحو السفح في طريق منحدر. لاحظت أن صوت الغناء والدفوف صار يتضاءل شيئًا فشيئًا كلما اقتربنا من أسفل الجبل، ثم فجأة توقف الصوت تمامًا. وصلنا إلى حيث كنا نرى الناس قبل قليل، والمفاجأة الصادمة التي كانت تنتظرنا هي أن المكان صار خاليًا تمامًا، لا أحد فيه! رغم أنه كان يعج بأشخاص يرقصون ويحتفلون قبل قليل. أين اختفى الجميع؟ لا أدري! لم يبقَ سوى النار المشتعلة. كانت صدمتنا قوية، بقينا واقفين في ذهول، ينظر بعضنا إلى بعض نظرة حيرة وقلق. لم نجد تفسيرًا لما جرى، وكأن الأرض قد انشقت وابتلعت كل هؤلاء! وبعد لحظات، هبت ريح باردة أقشعرت منها أجسادنا، أما النار فأخذ لهيبها يقل شيئًا فشيئًا حتى انطفأت. سمعنا خطوات قادمة من جهة الشجر الكثيف، خطوات متجهة نحونا. تذكرنا حينها ما قاله لنا الشيخ عبد الكريم وتحذيره لنا الذي لم نأخذه على محمل الجد. لم نفكر كثيرًا، بدأنا في الركض والجري بأقصى سرعة وسط الغابة عائدين إلى مكان الخيام. كانت أقدامنا بالكاد تحملنا من شدة الرعب. وصلنا إلى مكان التخييم وقلوبنا تخفق بشدة، وفكرنا في ذهول مما شاهدناه، كأنه كابوس مرعب جدًا. أضفنا الحطب إلى النار الضئيلة قرب خيامنا وجلسنا نفكر فيما علينا فعله: هل نجمع أغراضنا ونرحل من فورنا، أم ننتظر حتى الصباح؟ قلت لصديقيّ: “الطريق إلى مخرج الغابة محفوف بالمخاطر ووعر جدًا، خصوصًا في هذا الليل. قد نعرض أنفسنا لمخاطر أكبر!”. قال كمال: “إذًا فما الذي سنفعله؟”. قلت: “سنمضي الليلة هنا، وفي الصباح مع طلوع الشمس نذهب”. في ضوء النهار، جلسنا في شرود. لا يوجد تفسير لما جرى سوى تفسير واحد: لقد دخلنا أرض الجن وتجاوزنا الحدود بيننا. فهل يمر الأمر بسلام؟ جفانا النوم وبقينا متحلقين حول النار. بعد لحظات بدأنا نشم رائحة بخور قوية. التفتنا يمينًا ويسارًا نبحث عن مصدر الرائحة التي ما زادتنا إلا رعبًا وخوفًا. وبينما نحن نتساءل: “من أين تأتي رائحة البخور هذه وسط الغابة؟”، صكّ أسماعنا صوت طبول تقرع القلوب قبل الأذان، وترافقها صيحات واهازيج مثل التي كنا نسمعها في “عرس الجن”. في تلك اللحظة، علمنا يقينًا أنهم قادمون… قادمون إلينا! تملكنا الرعب ولم نقوَ على الوقوف أو الهروب. بعد هنيهة، وقف ياسين ثم صرخ صرخة قوية وسقط على الأرض ينتفض. هرعت نحوه رفقة كمال، فحاولنا تهدئته لكنه كان شاخصًا ببصره في اتجاه الأشجار الكثيفة المحاطة بالظلام. كان يصرخ ويقول: “إنه قادم إلي! يريد قتلني!”. فلما صعدت أنا وكمال في الاتجاه حيث أشار لنا ياسين، شهق كمال ثم صرخ صرخة رعب قوية وجرى في الاتجاه المعاكس نحو الغابة، وكذلك فعل ياسين! ذهب الاثنان يركضان بأقصى سرعة، وأنا مستغرب ولا أدري ما رأيا. كنت أنظر حيث نظر فلا أرى أي شيء. هل أصيبا بالجنون؟ جريت نحوهما لأوقفهما وأقول لهما: “لا شيء يدعو إلى هذا الخوف والجزع!”. وبدأت أنادي وأنا أركض خلفهما: “توقفا! توقفا!”. لكنهما لا يلتفتان إلي. ثم زادت سرعتهما حتى اختفيا وسط الظلام، ولم أستطع اللحاق بهما. فقررت العودة إلى حيث الخيام، سيعود كمال ومعه ياسين بعد أن يهدأ روعهما. عدت أدراجي، وصلت قرب خيامنا. لم تعد هناك رائحة للبخور، واختفت الأصوات وعاد الهدوء. جلست قرب النار وأنا أتساءل: “ما الذي رآه صديقاي حتى فزعا كل هذا الفزع؟ ولكن لماذا لم أرَ شيئًا؟”. بعد ساعة أو تزيد، لم يرجع صديقاي. فخفت أن يكون قد أصابهما مكروه. لكن بعد لحظات بدأت أسمع صوتًا قادمًا في اتجاهي. فقلت: “ها هما عائدين!”. فركزت بصري حيث صوت الخطوات القادمة، لكن ظهر من لم أتوقع قدومه! كان الشيخ عبد الكريم يمشي متكئًا على عصاه والكلب يرافقه. نظر إلي بعينه السليمة نظرة.الساعه قد تجاوزت منتصف الليل بقليل. ظلام دامس يطبق على الغابه. مشينا مسافه طويله، وبعدها وصلنا الى بيت من طين على الطراز القديم. كان الشيخ عبد الكريم يعيش في هذا البيت رفقه زوجته الحاجه ذهبيه. كان هذا هو اسمها “ذهبيه”، من الاسماء التي اندثرت في وقتنا الراهن، لكن ما زالت بعض الجدات تحمله في ربوع المملكه. استقبلتنا الخاله الذهبيه بحفاوه وقدمت لنا حساء لذيذا ومعه بعض التمر. رغم أننا لم نستطع الاكل، فقد عشنا لحظات صعبه ومريره. حاول العم عبد الكريم ان يخفف عنا ما نحن فيه وقال لنا: “انتم لستم اول من وقع في هذا المشكل، فقد سبقكم الى هنا اناس كثر حصل معهم مثل الذي حصل معكم واكثر”. واضاف الشيخ انه لا يكف عن تحذير الغرباء الذين يلتقيهم في الجوار؛ يحذرهم من الغوص والتعمق في الغابه، لكن اكثرهم لا يهتم لنصحه تماما مثلنا. وقالت لنا الخاله ذهبيه إن زوجها قد احضر الى هذا البيت العديد من الناس المصابون بمس الجن الغابه ويقوم بعلاجهم.مرت الليله بسلام في بيت الشيخ عبد الكريم. وفي صباح اليوم الموالي طلب منا ان ندخل الى غرفه من الغرف هناك حيث يقوم بعلاج الناس. كانت غرفه صغيره وبسيطه لكنها نظيفه ومليئه بانواع عديده من الاعشاب التي عرفت بعضها وجهلت معظمها. دخلنا جميعا وجلسنا، ثم تبعتنا الخاله ذهبيه تحمل قربه ماء صغيره. أخذها منها الشيخ ثم وضع فيها بعض الاعشاب والزيوت، ثم بدا يقرا عليها القران. كان حافظا متقنا وله صوت شجي. بعد ذلك صب ما في القربه في كؤوس وقدمها لكل من كمال وياسين ليشربا منها. ثم شرع يقرا ويرقي كل واحد منهما. وفي لحظه تغيرت ملامح رفيقي وظهر عليهما الغضب. كانا ينظران الى الشيخ نظره اداء وشر، ثم بدا في الصراخ وتكلم الجن الذي يسكنهما. وقال: “نحن جن الغاب. من اعتدى علينا لا نسامح حتى يذوق من الويل. وانت تعرف ذلك وتعرفنا جيدا”. لم يعبا الشيخ بكلام الجني واستمر في رقيه ياسين وكمال، بل ورفع صوته بذلك مستمرا في التلاوه.بعدها دخلت الذهبيه ومعها بخور طيب الرائحه. طافت به في الغرفه وسط صرخات الجن الذين صاروا يتوعدون الشيخ وزوجته بالانتقام والقتل. فما زاده ذلك الا اصرارا على اتمام القراءه بصوت يزلزل الجن. ثم تكلم معهم قائلا: “تعلمون ان هؤلاء الشباب لم يتعمدوا دخول ارضكم او الاعتداء عليكم. لقد وجدوا انفسهم بينكم دون قصد منهم، فلم تتلبس بهم ولم تؤذونهم”. الجن مره اخرى قائلا: “لقد صدر الحكم ضدهم وسنتر من هؤلاء البشر المعتدين”. فصاح الشيخ به قائلا: “لا فاروا الانتقام فحكم عليهم باطل الان. اما ان تخرجوا منهم بارادتك والا احرقت كما احرقت العديد منكم من قبل”. فساد الصمت ولم يجب الجن. لم ينتظر العم عبد الكريم جوابا، بل استانف قراءه القران. وهذه المره كانت زوجته الخاله الذهبيه جلسه بقربه وهي تقرا ايضا. فصاح الجن قائلا: “توقفا توقفا عن القراءه، ساخرج حالا”. فاخذ الشيخ منه العهد والميثاق على الا يعودوا لاد كمال وياسين. بعد ذلك اغمي على صديقاي، لكن بدات ارتياح على وجهيهما، وحتى علاه الحناء التي كانت على يديهما اختفت. وبفضل الله ثم مساعده الشيخ عبد الكريم وزوجته تمكنا من الخروج من كارثه والتخلص من مصيبه. فالحمد لله على كل حال.