إنقراض فريد
بقلم : عبده علي الفهد
في زمن كان فيه البشر تنهش البشر، الأكبر يأكل الأصغر، انقطع قطر السماوات، فأكل الأحياء الأموات. وتعددت الحكايات: اخترنا لكم حكاية فريد؛ لم تكن حينئذ قد عُرفت زراعة الحبوب والغلات. كان مصدر الغذاء لحوم الحيوانات وثمار النباتات. عمت المجاعة كل الأنحاء بعد أن أقلعت السماء. انعدم مصدر الغذاء، نفقت الحيوانات على إثر جفاف المراعي والغابات. من أجل البقاء، حدث صراع مخيف، أكل فيه القوي الضعيف. حيث جرت العادة أن يبدأ بآكل الأصغر، ثم الذي يليه، وهكذا حتى ينفرد الآباء والأجداد بالبقاء. وفي ظل هذه الظروف، لجأت أسرة فريد إلى أحد الكهوف، مثلها مثل سائر الأسر، كي تحمي صغارها من آكلي لحوم البشر. كانت الغارات على الكهف تتكرر بين الحين والآخر، الكيان الأكبر يهاجم الكيان الأصغر، وفي كل غارة يبطشون بأحد أفراد العائلة. يشربون دمه، ويمضغون لحمه، ويتقاسمون أشلاءه، أوشكت العائلة على الفناء. فريد؛ هامة من الهامات، قوي السواعد، مفتول العضلات، انتفض وارتجف، ثم وقف، فقال بعد أن رأى من حوله مقبلين على أكل أخته الصغرى: “إني أفضل الموت في العراء على البقاء هنا. فأحدنا يأكله الأعداء، بينما نلتهم نحن من تبقى”. ردوا: “كلامك لا يعنينا، وعن طعامنا لن تثنينا، ألم تشاركنا أكل صغارنا، وحين أتى دور أختك، ها أنت تصدنا! ألم تنفرد بأكل القلوب والأكباد، وتترك لنا بقية الأجساد؟!” سمعت أخته عزة ما دار، فارتعبت، ارتمت في أحضان أمها طالبة شفاعتها بلا جدوى. ثم استجارت بأبيها، فركلها إلى الحلبة بجسارة. تجمعوا حولها كما تتجمع الجراء حول جيفتها. استبسل فريد في الدفاع عن أخته، حملها على ترقوته، ممسكًا فأسه بيده. ثم فر بها من الكهف مسرعًا، صاعدًا تلًا مرتفعًا. صاد أرنبًا، جمع الحطب، أشعل اللهب، شويا وأكلا، ثم حثى الخطى. وبعد أن اجتاز السهول والجبال، عثر على عين ماء بين تلال. شربت أخته فساخت ونامت، فلف ودار يستكشف المكان إن كان يتوفر فيه الأمان. بعد برهة عاد، أيقظ أخته من الرقاد. سمعا أنينًا مرتفعًا آتيًا من خلف صخر متصدع، تتبعاه، فإذا بأسد ممتد، خائرة قواه. اقتربا، فشاهدا صديدًا على نحره يسيل من ورم في كتفه، هز الأسد رأسه، ورمش بعينه. قال فريد: “إنه يستغيث، ألا ترينه؟ سوف نحضر الوقيد ونقوم بكيه”. ردت: “في ذلك هلاكنا، إن شعر بحرق الكي بطش بنا”. قال: “لا تخافيه، أنت راقبيه! متى ما كشر عن نابه، انفشي الجمر عليه”. وضع الفأس على الوقيد حتى احمر، ثم كوى الجرح بحذر. آن الأسد أنين موجوع، ذارفًا من عينيه الدموع. بقي على حاله مجندلًا، لم يتحول أو يتبدل. وجد فريد بعض الضأن، سلخ إحداها، وجلبها إلى المكان. شوى منها ما طاب على الصفيح، وأعطى الباقي للأسد الجريح. بقي على هذا الحال عدة أيام وليال. استعاد الأسد عافيته، فنهض من مربضه. زأر ودار ثم انطلق مثيرًا للغبار. عاد حاملًا بين فكيه غزالًا عتيدًا، ألقاه جوار الوقيد. غشاهم استبشار، فقد وجدا من يدفع عنهم الأخطار، بل ويطعمهم ليل نهار، لم يعد عليهم سوى إشعال النار. أكلا فشبعا، وعلى الأرض اضطجعا. استيقظ فريد، تلفت حوله، فشاهد الأسد باسطًا ذراعيه. أمسك فأسه، فهز الأسد رأسه معطيًا إشارة ترحيب، قال في نفسه: “هذا أمر عجيب”. بحثا عن مأوى، فعثرا على مغارة قرب عين الماء، فاتخذا منها مثوى. اهتما بالشاة الضالة، تعهداها بالرعاية، فتوالدت وتكاثرت. قالت عزة: “لابد أن نعود إلى الكهف المعهود، سنصطحب الأسد، ربما لا يزال هناك أحد!”. استحسن فريد الفكرة، انطلقا في الغدوة، وإلى الكهف كانت الوجهة. كان الأسد يمشي خلفهم ظريفًا، كأنه كلب أليف، لم يعد شكله مخيفًا. كان موكبًا يخطف الأبصار، من رآهم لاذ بالفرار. اثنان من البشر يذودان غضنفرًا. اجتازوا الفيافي والقفار، أطلوا على الكهف آخر النهار. فشاهدوا على باب الكهف بشرًا حفاة، عراة، شاغري الأفواه، يحثون الطلب على التهام ما تبقى داخل الكهف من البشر. زأر الأسد وزمجر، ففر آكلو لحوم البشر. لم يتبقَ في الكهف سوى اثنين، رجل وفتاة، إلى جانب أمه وأباه، بالإضافة لعجوز عرّافة، والجماجم والعظام حول الكهف أكوام. استبشروا بقدوم فريد، إلا أنهم ارتعبوا لما رأوا الأسد برفقته. فقالوا: “أكلتنا البشر، وها أنت أتيتنا بالغضنفر!”. رد: “إن أردتم الأمان، لحقتم بنا الآن”. ساروا خلف فريد وعزة، والأسد حولهم يحوم، فتوارى آكلو اللحوم. استوطنوا فبنوا وشيدوا في وادٍ خالٍ، متشعب الأدغال. تقاسموا المهام، فكان من نصيب شقب جمع الحطب، وإشعال اللهب، وأخيها نصار يتولى حماية الدار، والعرافة تقوم بأعمال الغزل والحياكة، وأُوكل إلى عزة رعاية العجّزة، بينما تولى فريد صيد الغزلان، ورعاية الشاة والضأن. أينما ذهب، كان الأسد يرافقه، علا شأنه وذاع سلطانه. تكاثرت الأغنام تكاثرًا سريعًا، في ظل حماية الأسد الفظيع، لم تفترسها وحوش البر، ولم تطلها أيادي البشر. طلب نصار من فريد أن يعطيه من الأغنام ما يكفيه، وأن يساعده على بناء دار تؤويه. لبى فريد طلبه، فآزره في بناء داره، ثم شطر القطيع شطرين، وخير نصار أحد الاثنين. ذاد نصار أحدهما مع أخته، وبدأ مشوار حياته. كان هناك سوء علاقة بين شقب والعرافة إليك النص منسقًا بدون فراغات بين الأسطر:
دأبت العرافة على التنقل باستمرار بين داري فريد ونصار.
مرت الأيام وساد الود والوئام. تزوج نصار بعزة، فأنجب عشرة بنين وعشر بنات. وتزوج فريد بشقب، حمالة الحطب، فلم تلد ولم تهب. قويت شوكة نصار بعد أن صار له من الأبناء ما صار، إلا أنه حيال فريد، لا يبد ولا يعيد.
طلب نصار من العرافة أن تساعده على تبديد مخاوفه، وأن تأتيه بأسد غابة، لا يخشاه ولا يهابه، يضاهي أسد فريد. ردت: “أما الأسد فلست له، وأما فريد فسأجفف نسله.”
جمعت العشب والأوراق، وصنعت سمًّا معدوم الترياق. دخلت على حين غفلة مخدع العجزة، متقمصة صوت عزة، وأسقتهم الحليب المسموم. أتت عزة من دار نصار لا تعلم بما جرى وصار.
فقال فريد: “ويلك! ومن يكون غيرك؟ سممتِ أبي وأمي! ها هو أبي يتلوى، سأذهب للبحث عن دواء.” عاد خالي اليدين، فوجد أمه وأباه قد فارقا الحياة. شعر بالوحدة بعد أن انقضى جلّ عمره.
انفردت العرافة بعزة، أبلغتها حزنها الشديد على ما آل إليه حال فريد. سألتها عزة: “هل بيدك حيلة؟” ردت: “يسعدني رضاك إن طلب ذلك أخاك. فلدي عقار أعشاب، ربما ساعد على الإنجاب.”
ذهبت عزة إلى فريد حاملة الخبر السعيد، شاركته التأسي وذكريات الماضي، ثم قالت: “تناول هذا العقار يا أخي، لعل كربك ينجلي.” كانت العرافة قد أعطتها ذبل أرنب، فجف صلبه وتصلب.
مضى زمان وعدى، لا فائدة ولا جدوى. كان نصار قد وقع في براثن الجشع والطمع، فقال للعرافة: “إن مصدر قوة فريد بطش الأسد الشديد. إن فرقتِ بينهما، سأعطيك المزيد والمزيد.”
فمكرت العرافة وكادت، فكان لها ما أرادت، مستغلة حاجة فريد للولد. ذات مساء، أتته إلى مخدعه، في حفنيها بعض صدف البحر وودعه. قرأت الكف والمندل، ثم قالت على عجل: “إن كنت تتوق للولد، فكل قلب أسد.”
سمعت شقب ما دار، فطلبت من فريد تنفيذه بإصرار. بحث فريد عن أسد، إلا أنه لم يجد. بعد فترة، عادت العرافة. سألت شقب: “ألم يحصل فريد على ما طلب؟” ردت: “يئس بعد أن كلّ وملّ، البقاء معه لم يعد يُحتمل.”
قالت العرافة: “أليس الأسد في متناول اليد؟ لماذا تبحثون عن الأبعد؟” بُهتت شقب وتعجبت أيما عجب، وتعوذت من شر منقلبٍ إذا انقلب. فقالت: “ماذا دهاكِ؟ هل تأكلين قلب أخاكِ!؟ لولا الأسد، لما كان منا أحد.”
تركتها العرافة، فتوجهت نحو فريد لإكمال مكيدتها، فقالت: “عمرك انطوى، أوشكت على الفناء، وليس لك أبناء. لن تُخلّف من يحمل اسمك، فقد يجف نسلك. خيرتك، وعليك أن تختار بين الأسد، والابن البار.”
شهق فريد وزفر، ضاق وتحسر، إلا أنه وبعد عتب، أذعن لمطلب شقب. فأنشد العرافة بقوله:
“يا من فقدت العز، كيف لك أن تأتي بعز؟”
فأنشدته:
“كان لي بعل فمات، انطوى العمر وفات، لا بنين ولا بنات،لبِّ نفسك يا فريد، بالحفيدة والحفيد، ينقص العمر أو يزيد.”
وبعد أن رأى فريد من العرافة ما رأى، قال: “لكني على الأسد لا أقوى، فمن ينتزع عنه القلب والشوى؟”
فأتته العرافة بالحيلة، وقالت: “خذ هذا سمّ علقم، متى ما ذبحت شاة، خطته بالدم، سوف يلعقه الأسد، فلا يجد من الموت بد.”
خرجت العرافة شاعرة بالانتصار، بعد أن بثت فيهم العزيمة والإصرار. فقابلت الأسد آتٍ بين الدارين، فانتشلها فقطعها نصفين، والتهمها في مجرى ساقية، لم يبق منها باقية.
بعد أن بذرت بذرة شتات الشمل، غدت وبقيت مكيدتها تدب دبيب النمل. لم يعلم أحد قط أن الأسد قد قطعها قط.
بادرت شقب بجلب السكين، وأحضرت شاة، طالبة من فريد ذبحها. كان أمام المغارة صخرة ملساء مدورة مقعرة، يأتي إليها الأسد باستمرار، يربض عليها مستقبلاً أشعة الشمس آخر النهار.
ذبح فريد الشاة على سطحها، فسال الدم وتجمع في فجوة على الصخرة، فوضعت شقب السم على الدم وخلطته.
أتى الأسد، صعد الصخرة بعد أن لف حولها ودار، فبادر بلعق الدم كعادته. استعر السم في جوفه، فتلوى، ولهث على الثرى، خارت قواه فمات.
أغمض فريد عينيه من شدة حزنه عليه، بينما بقيت شقب ناظرة إليه. مات الوقيد بموته، فبادرت شقب بشق جوفه، فأخرجت قلبه. حملته إلى فريد، وقالت: “هاك قلب الأسد، كله كي نُرزق بولد. هيا لا تتردد.”
لم يرد.
كررت.
لم يجب.
دارت إلى أمامه، فوجدته قد فارق الحياة، بارز اللسان، مقلوب الشفاه.
حزنت لمصابها، فاعتلت صحتها وقضت نحبها. وبعد هلاك الأسد الكرار، توالت غارات الأشرار على الغار، افترسوا عائلة نصار، لم يدعوا منهم على قيد الحياة ديّار.
وهكذا انقرض فريد واندثر، بعد أن خان الغضنفر. فظلت قصتهما تتواتر:
“وفاء غضنفر وخيانة بشر.”
انتهى ومن يحب النبي صلى…
تحياتي لمن قرأ وشكري لمن علق ، وعرفاني لمن نشر ودقق ، و دمتم مسرورين مستورين ميسورين بإذن الله.
تعليق واحد