عندما يتداخل العالمان
بقلم:المحترف الخفي
تحكي فتيحة عن قصتها الغريبة، وتقول إنها وأسرتها كانوا جميعًا يسكنون دارًا كبيرة محاطة بحديقة وسور، في نواحي مدينة تارودانت.
كان في نفس البيت يعيش عمّان لفتيحة، متزوجان، ولكل واحدٍ منهما أولاد، بالإضافة إلى عمة لها لم تكن متزوجة.
تقول فتيحة إن والد جدها، الذي كان اسمه قاسم، لما بنى تلك الدار ورفع جدرانها، ولم يكن قد أتمّ إصلاحها بعد، رأى في اليقظة، وليس في المنام، رجلًا فارع الطول، أسمر البشرة، أسود العينين، يرتدي سوادًا في سواد، وفي أصابعه عدة خواتم.
اندهش قاسم لما رآه، فقال له الرجل الطويل الغريب:
“هذا المنزل الذي بنيته، تحته كنز. وهذا الكنز لنا، نحن من نملكه ونحن من نحرُسه. لن نصيبكم بأذى، ما لم تقتربوا منه أو تنبشوا الأرض بحثًا عنه. ومن أحسسنا منه الغدر، قسمنا ظهره.”
ظلّ قاسم شاخصًا ببصره، ينظر ويسمع لما يقوله الرجل الغريب، وأعجب ما في الأمر أن زوجته فاطمة، التي كانت تجلس بالقرب منه، لم ترَ ولم تسمع شيئًا.
ولما حكى لها ما شاهده بعينيه، أصابها خوف شديد، لكنه طمأنها بأن هؤلاء الجن لن يؤذوهم ما داموا لم يقتربوا من الكنز الدفين، كما أخبرها أنهم من الجنّ المسلم.
تقول فتيحة إن جدها وإخوته كانوا لا يزالون صغارًا.
وبعد أيام، بدأ قاسم في إصلاح المنزل وتقسيمه إلى غرف، وأثناء ذلك حدثت بعض الأمور الغريبة للبنّائين والعاملين في البيت.
كانوا يشتكون من تكسر لوازم الحفر وأدواته، خصوصًا في أحد أركان البيت، حتى إن أحد البنّائين، الذي كان مصرًّا على حفر المكان، عاد إليه الفأس الذي يحفر به وضربه على رأسه، فأغمي عليه. لقد كاد أن يفقد حياته، ونجا بأعجوبة، وخرج بجرح غائر في جبهته.
فهم قاسم ما الذي يجري، وأدرك أن ما رآه كان حقيقة وليس تهيؤات، فالمكان له أصحابه.
طلب قاسم من العمال عدم الحفر في ذلك الركن، وتركه كما هو دون إصلاح، وأنه سيجعل منه مستودعًا ولن يسكن فيه على أي حال.
ومضت الأيام، وكانت فاطمة، زوجة قاسم، على وشك الولادة، وكان قاسم يرغب بشدة في أن يكون المولود ذكرًا، فقد كان له في ذلك الوقت بنتان، بالإضافة إلى ولد، وهو جدّ فتيحة، الذي كان اسمه مختار.
وفي ليلةٍ، رأت
فاطمة رأت امرأة تخرج من الأرض، من وسط المستودع.
كانت المرأة ذات نظرات حادّة، وقالت لفاطمة:
“في بطنك ابنة، لكنها معتلة الصحة. الله أعلم، هل ستعيش أم لا.”
خافت فاطمة، وحكت لـقاسم ما رأت. فقال لها:
“نسأل الله أن يجعل في أقدارنا الخير، فهو من يعطي وهو من يأخذ، وله الأمر أولًا وآخرًا.”
وبعد عشرة أيام، أنجبت فاطمة طفلة، أسمتها زهرة، وكانت تحدث معها بعض الأمور الغريبة.
أحيانًا، تستيقظ فاطمة صباحًا فتجد الحناء على أقدام الرضيعة، التي كانت نادرًا ما تبكي كبقية الأطفال في سنها، كما كانت ترفض أن ترضع من حليب أمها.
أحضروا لها امرأة لتحاول علاجها، لكن دون جدوى.
وبعد قرابة الشهر، رأى قاسم في المنام أنه يمشي في مكان خالٍ، ويحمل بين يديه زهرة، ابنته الصغرى. ثم فجأة شاهد جماعة من الناس واقفين، وأحدهم يحفر الأرض بفأس.
التفت نحوه الجميع، ثم قال له ذلك الشخص الذي كان يحفر:
“أعطني البنت.”
فمدّها له قاسم ليدفنها ويواريها الثرى.
لم يكن هذا حلمًا عاديًا، بل كانت رؤيا حق.
فبعد ثلاثة أيام، ماتت الرضيعة زهرة بعد حُمّى أصابتها، وعمّ الحزن كل الأسرة لأيام طويلة.
تكمل فتيحة حديثها، وتحكي موقفًا حدث مع جدها مختار في تلك الفترة، عندما كان طفلًا.
كان يلعب قرب البيت، وقد صعد شجرة، بينما السماء تمطر بشدة.
كان ينتظر عودة والده قاسم من السوق، إذ مرّ به رجل يرتدي ملابس بالية، وشعره طويل منسدل على ظهره.
نظر إليه بغضب، ثم قال له:
“ادخل إلى البيت!”
بقي الطفل مختار ينظر متعجبًا من شكل الرجل وهيئته، بينما كرر الأخير قوله:
“لقد قلت لك: ادخل إلى بيتكم ولا تبقَ في الخارج. ما يزال وقت عودة والدك لم يحِن بعد.”
فنزل مختار بسرعة من على الشجرة، ثم دخل الدار وهو يلتفت لينظر إلى الرجل الغريب.
وبعد لحظات، ضربت صاعقة من البرق نفس الشجرة، فسقطت قرب باب البيت.
وبعد أيام، نهض قاسم في الصباح الباكر، قبل شروق الشمس، ليخرج أغنامه إلى المرعى.
تفاجأ بطفل صغير يلعب قرب باب البيت، لم يسبق له أن رآه من قبل، ومن المؤكد أنه ليس ابن الجيران.
كانت ملابسه نظيفة للغاية، رغم أنه كان يلعب في الوحل.
مشى قاسم يهش بعصاه على غنمه، ثم التفت، فرأى ذلك الطفل يدخل إلى داره، فعلم أنه ليس بإنسي، إنما هو من الجن الذين يسكنون معه في نفس البيت.
وبعد مدة، كان هناك عُرس في المنطقة، وكان قاسم وزوجته فاطمة مدعوّين لهذا العرس، فأخذوا معهم أبناءهم: مختار وأختيه.
كانت ليلة باردة جدًا، فأحسّت ابنة قاسم الكبرى برجفة في جسدها.
فقالت لها والدتها:
“اذهبي إلى البيت، وخذي رداء الصوف لتضعيه على كتفيك. سيحميك من هذا البرد، ثم عودي إلى العرس.”
فعلت الفتاة ما طلبته أمها، خرجت من دار العرس، ثم توجهت إلى البيت.
دخلت المنزل، أخذت الرداء السميك، ثم تدثّرت به.
ولما همّت بالخروج، سمعت صوت امرأة تنادي عليها باسمها، وتقول:
“يا سعاد، اركبي على ظهر البغلة ولا تعودي ماشية.”
خافت الفتاة سعاد من هول النداء
الغريب في الطريق
خرجت سعاد تجري من المنزل وهي مرعوبة، بعد أن سمعت صوت المرأة يناديها باسمها، تأمرها أن تركب البغلة ولا تعود ماشية. كان الطريق موحلًا، فانزلقت وأصيبت في قدمها إصابة بليغة، فسقطت عند حافة الطريق في ظلام الليل وبرودته القارصة. كانت القرية بأكملها منشغلة في دار العرس، ولم يشعر أحد باختفائها.
لحسن الحظ، أرسلت فاطمة ابنها مختار ليرى سبب تأخر أخته. فوجدها ممددة على الوحل، تتألم بشدة، وحولها بعض كلاب القرية. فركض إلى والديه وأخبرهم، وتم إسعاف سعاد، لكنها قضت أسابيع عاجزة عن المشي، وعانت كثيرًا حتى بدأت قدمها بالشفاء.
أصوات في الليل
تُكمل فتيحة الحكاية، فتروي ما عاشه والد جدها قاسم في صغره، قائلة: “كانوا في الليل يسمعون أصوات حركات غير عادية داخل البيت، وكأن أناسًا آخرين يسكنون معنا، لا يظهرون إلا بعد أن ننام. يتحركون ويعيشون في الليل، وكأن لهم وقتهم الخاص.”
تمرّ السنون، ويكبر مختار، وتتزوج أختاه. يتوفى والداه قاسم وفاطمة، وتقرران الأختان بيع البيت، فهما لا ترغبان بالسكن فيه. لكن مختار يعرض عليهما قطعتي أرض مقابل التنازل عن نصيبهما، فوافقتا، وأصبح المنزل ملكًا له. تزوج واستقر فيه.
البركة والكنز
تروي فتيحة: “كان جدي مختار رجلاً مباركًا، يعالج الناس بالكي والأعشاب، ويقصد بيته الكثير من الزوار طلبًا للعلاج. أما جدتي، فحين كانت طفلة، رأتها امرأة من المجاذيب، فقطعت خصلة من شعرها، ووضعتها في يدها، ثم دعت لها. وعندما كبرت، صارت تراها في المنام تعلمها وصفات بالأعشاب”.
أنجب مختار بنتًا وثلاثة أولاد، منهم والد فتيحة واسمه عبد السلام. كان بيتهم يعجّ دائمًا بالأهل والجيران وطلّاب العلاج.
الخطأ الكبير
ذات يوم، احتاجت ابنة مختار الكبرى (عمة فتيحة) إلى تغيير ملابسها، ولم تجد مكانًا مناسبًا، فدخلت المستودع المعروف الذي يُقال إن فيه كنزًا مدفونًا ومحروسًا من الجن. خلعت ملابسها، ونسيتها هناك. وحين حلّ الليل، ونامت في البهو المخصص للضيوف، فوجئت بامرأة ذات وجه بشع وغاضب تدخل عليها، وتقول لها بحدة:
“لولا أنك صغيرة السن، لأذقتك درسًا لن تنسيه. لماذا آذيتنا في مكاننا؟ نحن لم نؤذِكِ يومًا. تركنا لكم البيت بأكمله، فاحترموا حدودكم.”
مرضت الفتاة مرضًا شديدًا بعد هذا الحادث، وأصابتها حالة نفسية جعلتها تسقط وتتشنج مرارًا، وترى الجن في صورة بشعة كل مساء، حتى اعترفت لأمها بما فعلته. علموا حينها أن ما أصابها كان عقابًا من الجن على دخولها المكان المحظور دون إذن أو طهارة، كما كان مختار يحذر دومًا.
عباس… والخيانة
وتواصل فتيحة: “ارتكب جدي خطأ فادحًا عندما وثق في صديقه عباس، الذي كان كثير السفر وله علاقات بالسحرة والمشعوذين. ذات مرة، حكى له عن سر الكنز، فبدأ عباس يلحّ عليه، ويقول إنه يعرف من يستطيع استخراجه، ويعده بالربح المشترك”.
رفض مختار مرارًا، لكنه لم يكن يعلم أن عباس سيعود ذات يوم ومعه رجلان غريبان، ليسا من المغرب. قال إنهما ضيفان من بلاد بعيدة، وأحدهما يعاني من ضيق في التنفس ويريد العلاج. استقبلهم مختار بحسن نية، غير مدرك أنه يجلس مع ساحرين.
لاحظ عبد السلام، وكان صغيرًا حينها، نظرات الرجلين الغريبتين وهم يحدّقون في أرجاء البيت ويتمتمون بكلام غير مفهوم. بدأ مختار بعلاج المريض منهم، ولاحظ آثار ندوب كثيرة على جسده، فقال له الساحر: “هذه من الجن الذين يؤذونني في بلادي… لكني أشعر بالراحة في دارك.”
طلب منه أن يقرأ عليه الفاتحة، ففعل. وفي المساء، أصرّ عباس أن يبقى الرجلان في دار مختار، لأن الحر شديد، وكان هدفهم الحقيقي الاقتراب من المستودع.
ليلة السحر
في الليل، تظاهر أحدهما بالصلاة، ودخل غرفة الضيوف وبدأ بقراءة طلاسمه، وكتابة طلاسم على أوراق غريبة. راقبه عبد السلام، لكن الساحر أمره بالصمت. وغلبه النوم فجأة، كما نام كل أفراد العائلة في لحظة واحدة.
يقول عباس لاحقًا: “بينما كنا نحفر، انطفأت كل الشموع فجأة، وأظلم المكان. وبدأ الجن بضربنا وصفعنا بقوة… لم نرَهم، لكننا أحسسنا بهم. هرب الساحران، أما أنا، فلم أقدر على الحركة.”
في الفجر، استيقظ الجميع، فوجدوا باب المستودع مفتوحًا، وبقايا الطلاسم والبخور، وأدوات الحفر مرمية. أما عباس، فكان ملقى خلف البيت، فاقدًا الوعي
الندم
استفاق عباس وهو يبكي، يقبّل يد مختار ويطلب السماح، معترفًا بخطئه الكبير. قال:
“أعماني الطمع… لم أكن أنوي الغدر بك. كنت سأعطيك نصيبك.”
لكن مختار قرر أن يقطع علاقته به نهائيًا. وانتشرت القصة في القرية، وصار الجميع يعلم أن في دار مختار كنزًا تحرسه الجن، ما أغرى آخرين لمحاولة إخراجه لاحقًا
في إحدى المرات، كانت جدّة فتيحة وعمتها وحدهما في البيت، إذ كان الجدّ مختار قد سافر مع أولاده إلى أحد الأسواق البعيدة، حيث يعالج الناس ويبيع الأعشاب. في ذلك اليوم، كانت زوجة مختار تخبز العجين عند غروب الشمس، فبدأت ترى أناسًا كثيرين يدخلون ويخرجون من المستودع، كبارًا وصغارًا، رجالًا ونساءً. كانت معتادة على رؤيتهم من حين لآخر، ولكن ليس بهذا العدد الكبير. فقامت وتوضأت، ثم صلّت وجلست تذكر الله. وفي تلك الليلة، رأت في المنام كأنّ عرسًا يُقام داخل البيت، والعديد من الوجوه الغريبة تدخل وتخرج من الغرفة. بعضهم كان يشبه البشر، وآخرون كانت أشكالهم مرعبة للغاية، ومنهم من كانت له أقدام كحوافر الدواب والبهائم. كانت تسمع أصوات دفوفهم ومعازفهم، وغناؤهم كان كالحُداة أو كأهل الصحراء، أزيجهم كأنها آهات ونداءات.
تقول زوجة مختار إنها استيقظت من نومها، لكن صوت الدفوف والمزامير كان لا يزال يُسمع قادمًا من المستودع. وفي اليوم التالي، كان مختار لا يزال في السوق البعيد مع أولاده، فوقف أمامه رجل بجلباب داكن وقال له دون أن يسلّم: “أنا أعرف”. نظر إليه مختار مستغربًا، فأكمل الرجل: “أعرف ما عندك في البيت. إنه كنز عظيم، يمكنني أن أخبرك ببعض محتوياته: أساور، خواتم، وأحزمة من ذهب خالص، وبعض الخناجر الفضية المرصعة بالأحجار الكريمة، والكثير غيرها، ويحرس هذا الكنز مسلمون.” غضب مختار، والتفت يمينًا ويسارًا، ثم قال له: “اذهب إلى حال سبيلك، ما تقوله غير صحيح.” ردّ الرجل وهو يشير إلى والد فتيحة – وكان حينها شابًا –: “ابنك هذا زهري، أتعبه الجن لكنه سيتعبهم، انظر كم هو هزيل!” وكان فعلًا نحيفًا مقارنة بإخوته. ثم أضاف: “كما أن لك ابنة أخرى، وهي زهرية أيضًا، ولعل بها مرضًا بسبب الجن.” استغرب مختار من معرفة هذا الرجل بهذه التفاصيل، فقال له: “ما المطلوب مني الآن؟” ابتسم الرجل وقال: “أذهب معك، نُخرج الكنز ونتقاسمه، وأريحك من هؤلاء الجن إلى الأبد. ما رأيك؟” رفض مختار عرضه وطرده، فقال له الرجل وهو يغادر: “ستندم! ستندم على هذه الفرصة التي أضعتها بيدك.”
وبعد ليلتين، أتت ابنة مختار – وكانت حينها طفلة – وقالت إن طفلًا غريبًا، له شعر أبيض ولا أسنان له، أمسك يدها وأدخلها المستودع، فرأت هناك حفرة عريضة مليئة بالذهب والحلي والمجوهرات، لم ترَ مثلها في حياتها. بقيت هناك مبهورة حتى قال لها ذلك الطفل: “الآن عودي إلى نومك.” وفي اليوم التالي، أخبرت الجميع بما رأت، لكن لم يصدقها أحد، ظنّوا أنها مريضة، أو ربما رأت ذلك في المنام لا في الحقيقة.
تقول فتيحة: “كبر والدي وعمّي، وتزوج عمي الأكبر، ثم تلاه أبي، وبقوا في نفس المنزل مع جدّي مختار. أما أصغرهم، فكان طائشًا، بعيدًا عن الطريق المستقيم، وكان أحيانًا حين يغضب من والده يقول له: (أنت لا تريد لنا الخير، لو أننا أخرجنا ذلك الكنز لكنا نعيش أفضل من هذه العيشة، ولكان لكل منا دار خاصة به. إلى متى سيظل الكنز مدفونًا؟ لا بد أن يأتي يوم يخرجه فيه أحدهم، ونحن أولى به).” فكان مختار يجيبه: “ذلك الذهب ليس لنا، وليس من حقنا، فله أصحابه.”
أما والد فتيحة، عبد السلام، فقد رأى ذات مرة في المنام أناسًا يطلعونُه على مكان الكنز، كما رأى مرارًا امرأةً تلبس الكثير من الذهب، تسكن معه في نفس الغرفة التي يعيش فيها مع زوجته. وتقول فتيحة: “في الليلة التي وُلدتُ فيها، رأى والدي في المنام تلك المرأة تضع قلادة من الجواهر في عنقي، ثم قالت له: (سَمّها فتيحة، لعلها تكون لكم فاتحة خير بإذن الله.)”
تضيف فتيحة: “منذ صغري، أحس أنّ معي رفقة، كأنّ أحدًا يغطيني ليلًا. لم أرَه، لكنني أحسست به. وقبل ولادة أخي الأصغر، رأى والدي في المنام من يقول له: (ابنك القادم هذا سيُزاد في بيتنا، وهو معدود منا، فاحمد الله على ما أتاك، ولا تعترض على حكمه.)” فازداد أخو فتيحة في شهره السابع، وولد أبكم، وكان زهريًا مثل أخته. كبرت العائلة وكثر صغارها من أحفاد مختار.
تقول فتيحة: “ذات ليلة، أخبرونا بوفاة أخت جدي، فذهب الجميع إلى بيتها، كبارًا وصغارًا، ولم يبقَ في البيت إلا توفيق، عمّي الأصغر، الذي لم يكن موفقًا أبدًا.” توفيق اتفق مع أحدهم، وأحضر معه ساحرًا لطرد الجن وإخراج الكنز، واتفقوا أن يقتسموه. بدأ الساحر برسم طلاسمه على عتبة الدار، وتمتم بكلمات وقال: “حُراس الكنز كُثُر، وهم أشدّاء.” ثم أعطى لتوفيق شمعة، وطلب منه ألا يتحرك من مكانه، ثم أشعل بخورًا وقال إنه يُنفر الجن، وبدأ يقرأ تعاويذه. وما هي إلا لحظات حتى شبت النار في الساحر وصاحبه، وبدأا يصرخان وينزعان عنهما ملابسهما المشتعلة. حتى توفيق أصيب بحروق في قدمه، وكاد أن يموت لولا لطف الله. هرب خوفًا من والده، ولم يُخبر أحدًا بما حصل، وهرب الساحر وصاحبه أيضًا وهم يصرخون من الألم.
عند عودة الجميع من الجنازة، وجدوا آثار السحر والملابس المحروقة. وفي تلك اللحظة، بدأ أخو فتيحة يرتجف بشدة ثم سقط مغشيًا عليه، إذ كانت الطلاسم تؤثر فيه حتى ولو كانت بعيدة عنه. غضب مختار بعدما علم أن هذا من فعل ابنه، وحاولت زوجته تهدئته، وقالت إنهم غير متأكدين، وربما يكون بعض أبناء الجيران الطائشين. وأكدت أن أحدًا لن يستطيع أخذ شيء، فقد حاول قبلهم كبار السحرة والمشعوذين دون جدوى.
غاب توفيق بعدها أكثر من عام ونصف، حتى التقى به عبد السلام – والد فتيحة – في أحد أسواق الماشية، وكان يعمل مع أحد تجار الغنم. بدا عليه الإرهاق، وصار هزيلًا شاحب الوجه. أقنعه عبد السلام بالعودة إلى البيت، وأخبره أنه سيكلم والده ليصفح عنه. عاد توفيق نادمًا، وبكى الكل حين رأوه، وطلب الصفح من والده ووالدته، ثم روى ما حصل في تلك الليلة المشؤومة. فقال له مختار: “سأعطيك ما شئت من المال، فقط لا تقرب الأمانة ودعها لأصحابها.” وبقي توفيق معهم أشهرًا، ثم أعطاه الجد مالًا ليبدأ تجارة في المدينة المجاورة. تقول فتيحة: “منذ أن صار عمري 15 سنة، بدأ الخطّاب يتوافدون، لكن جلهم كان طامعًا، يتحدثون عن الكنز، وكان جدّي يطردهم شرّ طردة.”
أحضر لها والدها ذات مرة سبع أساور رقيقة من فضة، ففرحت بها، وفي تلك الليلة، رأت امرأة في المنام تقول لها: “سآخذ واحدة من هذه الأساور.” فردّت فتيحة: “لا تأخذي منها شيئًا!” فابتسمت المرأة وقالت: “بل آخذ واحدة فقط.” وفي الصباح، وجدت فتيحة ست أساور فقط، ولم تعثر على السابعة رغم بحثها في الفراش والغرفة. وتقول إنها بعد ذلك، ولثلاث مرات، كانت تجد ذهبًا خارج البيت: خاتم، ثم سوار، ثم سلسلة ذهبية. وكانت كلما وجدت شيئًا، تأخذه وتعطيه لوالدتها، إذ لم تكن تحب الذهب، بل الفضة.
حتى عريسها، حين تقدم لخطبتها، اشترطت عليه أن يُهديها فضة لا ذهب، وسط استغراب منه ومن عائلته. ويقول زوج فتيحة: “لقد رأيتك في المنام قبل أن أخطبك، تضعين أساور وقلادة من فضة، ويدك مزينة بالحناء.” تزوجت فتيحة، وعاشت حياة بسيطة طيبة، لكنها لم تُرزق بالذرية، وهو ما يُنغّص عليها أحيانًا. زوجها كان راضيًا، لكن أخواته لم يكففن عن تكرار الحديث عن الأولاد، وكأنّ الأمر بيده، لا بيد الله. وفي ليلة، بكت فتيحة بحرقة بعدما سمعت كلامهم، فرأت شخصًا يدخل عليها في الظلام، كأنها تعرفه، وقال لها: “لا تبكي، أنا معك منذ صغرك. لا تيأسي من روح الله، وادعي بقلب مُنيب أن يؤتيك الخير، فربما كان الخير في الذرية، وربما في غير ذلك، فهو أمر الله، ولا اعتراض عليه.” خرج الرجل، وتركها مرتاحة البال، فاشتغلت بعدها بالعبادة والذكر والدعاء.
توفي الجد مختار، وتفرقت العائلة، وكلٌّ ذهب إلى بيت مستقل. عاشت جدة فتيحة مع ابنها الأكبر، أما عبد السلام وزوجته فاستقروا في بيت بسيط قرب فتيحة، التي كانت تزورهم ويزورونها باستمرار. أما توفيق، فقد أصبح أكثر نضجًا، وتزوج هو الآخر بعدما نمت تجارته. وتختم فتيحة: “الدار العتيقة في القرية، رغم أنها فارغة طوال السنة، إلا أنه لا أحد يستطيع الاقتراب منها. فكل من يحاول التسلل إليها، يجد حُرّاس الكنز له بالمرصاد. قد يُمسكون به ويطرحونه خارج الدار، فيجري من الرعب، لا يلتفت خلفه، ويقسم ألا يعود أبدًا.
إرسال التعليق