كنز الضريح ولعنة القرية
بقلم:ابن الوادي القديم
زبيدة امرأة يُشاع عنها أنها ساحرة، وهي الآن حامل وقد اقترب أوان وضعها. لا يعلم أحد هل الذي في بطنها أبوه إنسيّ أم غير ذلك. وفي يوم ولادتها هجم أهل القرية على بيتها فأحرقوه لتموت زبيدة “الساحرة”، وحتى المرأة التي جاءت لتولّدها. وحده الرضيع ظل يبكي بين النيران التي لم تلمسه ولم يتأذَ منها، وسط اندهاش الجميع، فهربوا وتركوا الرضيع لمصيره. إلا أن هناك امرأة قامت بكل ما في وسعها لإنقاذ الولد وإخراجه من النار.
اسمي ياسر، وعمري 30 سنة، مهنتي حفر القبور. أمي التي ربتني توفيت قبل أيام، لكنها قبل أن تسلّم الروح لبارئها، صدمتني بحقيقة كانت تخفيها عني طوال الثلاثين سنة الماضية. أخبرتني وهي على فراش الموت أنها ليست والدتي، لم تنجبني، بل ربتني منذ كنت صغيرًا. سألتها والأرض تدور بي من هول كلامها: “إذاً من هي أمي؟” فردّت بلسان ثقيل: “أمك هي زبيدة التي كان الناس يقولون عنها ساحرة، وماتت محروقة داخل بيتها”.
كانت صدمة كبيرة، ليتني لم أعرف، وليتها لم تخبرني قبل وفاتها. لقد كنت أحيا حياة عادية قبل أن أسمع هذا الكلام، رغم أني حفار قبور، تلك المهنة التي تتطلب قلبًا قويًا لا يخشى شيئًا. رحم الله أمي فاطمة، لم أشعر يومًا أني لست ابنها، كانت دومًا تسعى لتوفر لي حياة كريمة رغم فقرها المدقع.
كانت كل القرية تعاني من الفقر وضيق ذات اليد، حتى إن الزراعة شحيحة، فكنا نشتري كل ما نحتاجه من إنتاج الأرض من القرى المجاورة. وحسب ما يحكي الناس، فمنذ أن أُحرقت “الساحرة” ودارها، والقرية تعاني من القحط والجفاف.
يقول بعضهم إن لعنة أصابت أهل القرية وجعلتهم يعيشون في فقر وضنك. ويقول آخرون إن الساحرة لا تزال حية، وهي من ترسل خدامها وتُسلّطهم على القرية. هذا ما يتداوله البعض. لكن أمي فاطمة أكدت لي أنهم رأوا جثة الساحرة متفحمة، ولم تنجُ من النار المضرمة. والراجح عندها أن الجفاف والفقر الذي يحيط بالقرية هو بما جَنَتْه أيدي أهل القرية أنفسهم.
ربما كانت تقصد ذلك الضريح الموجود وسط القرية، والذي يأتي الناس لزيارته من كل حدب وصوب، مع ما يرافق ذلك من طقوس شركية ودعاء وذبح لغير الله عز وجل. ومع الأسف الشديد، فالضريح يعج بالمشعوذين والفاسدين، وكما كانت تقول رحمها الله: “من مات انقطع عمله، ولن يستطيع نفع نفسه، فكيف ينفع غيره؟ من سأل، فليسأل الله، وما دون ذلك فهو الشرك والضلال”.
وكان يُقام في هذا الضريح موسم سنوي يصادف فصل الشتاء، لكن كلما حلّ الموسم الشركي تُحبس السماء عن المطر. سبحان الله. لكن لا من يتعظ، ولا من ينهى عن هذا المنكر، سوى إمام مسجد القرية، لكنه كلما أراد الكلام صده الناس عن ذلك، وعارضوه بشدة، بل كانوا يهددونه.
أما المستفيد من الضريح وما يُروّج فيه، فهو شيخ القرية ورئيسها. كان بيته مقابلًا للضريح، وإليه تعود كل تلك الأموال والذبائح والهدايا التي يأتي بها الجهّال، ويزعم أن دفين الضريح هو جده وكان وليًا صالحًا، حسب ما يقول.
كان شيخ القبيلة هو أغنى رجل في القرية، ومعه حاشيته الفاسدة، أما بقية أهل القرية فكانوا غارقين في الفقر والأمراض.
نعود إلى كيف صرت حفّارًا للقبور: الأرض في قريتنا صخرية وصلبة للغاية، يُعاني معها الفأس كثيرًا، لذلك لا أحد يرغب في أن يحفر قبورنا. وهذا ما حصل حين أردنا دفن أم فاطمة، لم نجد من يحفر قبرها. كنت حينها أكتم غيظًا كبيرًا، أمسكت الفأس وصرت أهوِي به على الأرض، والعجيب أنها صارت لينة مطواعة كأنها تراب وليس صخرًا. اندهش الجميع وقرروا أن يُكلّفوني بهذه المهمة، مهمة حفر القبور ودفن الموتى، مقابل أجر معلوم.
سبحان الله، هناك من رزقه مع الأحياء، وهناك من رزقه مع الموتى. في الأيام الموالية، كنت أحفر من ثلاثة إلى أربعة قبور في اليوم. ازدادت الوفيات، فقد تفشت المجاعة والأمراض، وشيخ القبيلة غير مكترث، رغم أن بإمكانه فعل الكثير لإنقاذ الأرواح، على الأقل يسمح بمرور المياه لهم.
فقد كان في القرية نهر ماء جارٍ يقسم القرية إلى نصفين: نصف فيه الضريح وبيت شيخ القبيلة وأرضه الشاسعة، والنصف الآخر حيث يعيش عامة أهل القرية وفقراؤهم. فعمد شيخ القبيلة إلى حفر سواقي ليأخذ الماء ليسقي به أرضه ومزروعاته، تاركًا أهل القرية ليقتسموا ما تبقى من ماء ضئيل لا يكفي حتى لشربهم وشرب بهائمهم.
كان الناس يكلمونه في أمر الماء، فكان لا يُلقي لهم بالًا، بل ويُعنّف من يكثر معه الجدال. وفي يوم من الأيام أرسل الشيخ في طلبي، فذهبت إليه. أخبرني أنه يريد مني أن أحفر له حفرة داخل أرضه كي يزرع بها شجرة كبيرة، لعله اقتلعها من مكان ما، لا أدري. طلب مني أن أحفر قرب داره، ثم دخل وتركَني أهوِي بالفأس على الأرض.
فجأة، سمعته يتشاجر مع زوجته، وصوتها يصل إلي. لم أُبَالِ بخصامهما، لكني توقفت عن الحفر حين سمعت زوجته تقول له: “إن تزوجت عليّ، فسأفضحك في القرية وأُخبر الجميع أن دفين الضريح ليس جدك كما تزعم، بل لقد دفنتَ هناك صندوق الذهب، وتعلم وأعلم من أين أخذتَه: من بيت المرأة التي أُحرقت دارها. قتلتها وقتلت ابنها يوم ولادته، وقد أشعتَ في الناس أنها ساحرة تُصيب بسحرها رجال القرية ونسائها، بينما هي بريئة من هذه التهمة. لقد كانت شريفة عفيفة، وإنما فعلتَ ذلك لأنها لم ترضَ أن تتزوجك، وتزوجت من أخيك سرًا. ولما علمتَ بذلك، قتلتَ أخاك، وانتظرتَ حتى يوم ولادتها، فهيّجتَ ضدها أهل القرية، وأضرمتَ النار في بيتها”.
لم أكن أصدق ما يصل إلى أذنيّ من كلام. أمعقول هذا؟ سقطت الفأس من يدي وشردت في تفكير عميق. زوجة شيخ القرية تتكلم عن نفس المرأة التي أخبرتني عنها أمي فاطمة؟! ماذا يعني ذلك؟ يعني أن زعيم القرية هو من قتل والدتي ووالدي أيضًا، وحرمني منهما ظلمًا وعدوانًا بغير وجه حق.
أحسست بغضب شديد ورغبة في الانتقام. حملت الفأس وأتممت الحفر بسرعة، ثم ناديته وقلت له إن الحفرة جاهزة. حينها أمر خدمه بزرع تلك الشجرة الكبيرة هناك. بعدها مدّ لي بعض الدراهم، كنت أنظر إليه، تُحدثني نفسي بأن أضربه بالفأس على رأسه فأنتقم لأمي وأبي، وأُريح منه البلاد والعباد.
لكني تمالكت نفسي. سأجد طريقة أخرى لأنتقم. فكرت في أن أدخل الضريح وأحفر لأُخرج الذهب، لكن هذا صعب، فقد وضع الشيخ حارسًا على الضريح لا يتزحزح من هناك ليل نهار، ويراقب كل الداخلين والخارجين منه. فكرت في قتل الحارس ثم الدخول إلى الضريح، لكن ما ذنب الحارس؟ لا، لن أقتله فأبوء بإثمه، وربما يُمسكون بي ويقتلوني قصاصًا.
كنت في حيرة من أمري، فقصدت إمام القرية، أخبرته بكل ما عرفت، فاندهش مما سمعه، وبدأ يحوقل، ثم قال لي: “دعه يا بني، فهذا الظالم سيلقى جزاءه عاجلًا غير آجل”.
تركت الإمام، وذهبت عند صديق لي اسمه حميد العطار كان صديقي منذ الصغر قد يستطيع
مساعدتي فيما انوي فعله، وما إن رآني حتى ابتسم مرحِّبًا، ثم قال لي:
“مرحبًا بعفّار القبور، كم قبرًا حفرت اليوم؟ أظن أنك تدعو الله دومًا أن يُكثر موتانا، فبهم ترتزق أنت!”
قلت له مستنكرًا:
“ما هذا المزاح الثقيل؟ ألا تتعقّل؟ اجلس، لديّ ما أخبرك به.”
تغيّرت ملامح حميد، وأدرك أن الأمر جدّي. أخبرته بما سمعت في بيت زعيم القرية، وطبعًا لم أخبره من أكون ولا أن الأمر يخصّني. ظل حميد يلعن شيخ القبيلة، ثم قال:
“لقد خدعنا جميعًا طوال السنين الماضية.”
أخبرت حميد بنيّتي في أخذ الذهب، وقلقي من حارس الضريح، فقال لي:
“لا تشغل بالك بالحارس، عندي له دواء.”
اتفقنا أن نلتقي ليلًا ونذهب معًا إلى هناك. وبعدما عسعس الليل، ذهبت إلى دكّان حميد، فوجدته قد أعدّ قنينة صغيرة. سألته عمّا بداخلها، فقال:
“هذا منوِّم، سأضعه للحارس في الطعام، ولن يستيقظ إلا غدًا.”
ثم أطلق حميد ضحكته المستهترة. قلت له محذِّرًا:
“علينا أن نكون حذرين، ستكون نهايتنا إن كُشف أمرنا.”
انطلقنا نحو الضريح. كان حميد يحمل طبقًا فيه طعام قد خلط به المنوّم. قدّمه للحارس بعد أن سلّم عليه. وكان الحارس يعرف حميد، فلم يشكّ فيه، وبدأ يلتهم الطعام بنهم. وبعد لحظات، بدأ يتمايل، ثم اتكأ على كرسيه، وبدأ شخيره يعلو.
التفتّ إلى حميد وقلت له:
“والله لولا هذا الشخير، لظننتك وضعت له السم وقتلته!”
كان مفعول المنوّم سريعًا. تركت حميد عند الباب، ودخلت أحفر داخل الضريح. بقيت أحفر قرابة ساعة دون أن أجد شيئًا. كدتُ أيأس، لكني لم أستسلم. فجأة، أحسست أن الفأس يلامس شيئًا، وكأنه صندوق. أزحت التراب، فإذا به صندوق خشبي كبير. لم أستطع حمله وحدي، فناديت حميد ليساعدني.
نظرنا إلى بعضنا البعض، ولعلّ الصدمة كانت أقوى منّا، فلم ندرِ: أنفرح، أم نخاف على أنفسنا من بطش شيخ القرية؟ لم أستطع منع نفسي من فتح الصندوق، فهالني ما بداخله: قطع ذهبية، أساور نفيسة، أحجار كريمة، وتماثيل من الذهب الموشّى بالياقوت.
كنت قد أحضرت كيسين، ملأتهما حتى آخرهما. حملتُ واحدًا، وحمل حميد الآخر. ذهبنا وأخفينا الكنز في مكان آمن، ثم تفرّقنا كل إلى داره.
في اليوم التالي، سمعنا هرجًا ومرجًا في القرية. سألت عن الأمر، فقال لي أحد الجيران:
“يُقال إن أحدهم أراد نبش قبر الضريح، حيث دفن الوليّ الصالح، ويقال إنه ساحر من السحرة!”
ابتسمت حينها، وعلمت أن شيخ القبيلة لا يزال يروّج الإشاعات والخرافات بين الناس البسطاء. ظل الشيخ طوال اليوم يطوف بيوت القرية هو وأعوانه، يدخلونها بيتًا بيتًا، يفتشونها، ولا أحد يعلم عما يبحثون… إلا أنا وحميد.
لكنهم لم يعثروا على شيء، فقد دفنت الذهب في المقبرة، وجعلت له قبرًا وهميًا، وضعت عليه شاهدة دون اسم، كأغلب قبور القرية. كنت مرتاحًا جدًّا، وعلى يقين تام بأن لا أحد سيعرف مكان الذهب.
بعد أيام، جاءني أحد خدم الشيخ يطلبني للحفر في أرضه. كنت حينها في المقبرة، حملت فأسي وذهبت. تفاجأت أن بيت الشيخ ممتلئ بالناس، ومن بينهم مقدم القرية. كان الجميع ينظر إليّ، والشيخ جالس في الوسط.
فجأة، تكلّم المقدم وقال:
“أين الذهب الذي سرقته يا ياسر؟”
بقيت صامتًا أفكّر. لقد افتُضح أمري، وكلّ ذلك بسبب حميد المعتوه. ما إن أعطيته بعض الذهب حتى باعه، وذهب إلى خمّارة في القرية المجاورة، وهناك، وبعد أن أذهب السكر عقله، أخبر بعض ندمائه، الذين أوصلوا الخبر إلى شيخ القبيلة. فما كان من الأخير إلا أن أحضره، فاعترف وأقرّ بأني من أخذ الذهب، ثم أعطاهم ما تبقّى معه من مال وذهب.
ومع ذلك، قيّدوه ورموه في الزريبة، وكذلك فعلوا بي. قيّدوا يديَّ ورموني إلى جواره. انهلت عليه بالسبّ والشتم، فقد أودى بنا استهتاره.
بعد لحظات، دخل شيخ القبيلة، والغضب بادٍ على وجهه، ثم قال:
“أريد أن أعرف شيئًا واحدًا… كيف عرفت أن الذهب مدفون تحت الضريح؟ ومن أين أتتك الجرأة لتسرقه ثم تتصرّف كأن شيئًا لم يكن؟”
فقلت له:
“أنا لم أسرق، بل استرجعت مالي… مال أمي وأبي الذي سرقته أنت.”
تفاجأ حميد العطار عندما سمعني، وقال:
“ما الذي تقول يا مجنون؟ سيدفننا في هذه الزريبة ولن يرحمنا!”
ظل الشيخ صامتًا ولم يعلّق على كلامي. أغلق باب الزريبة وخرج. كنت أتوقّع أن يقتلني في الحين، لكنه لم يفعل. بقيت هناك خمسة أيام مع حميد، وفي اليوم السادس، استيقظت لأجد حميد معلّقًا، وقد فارق الحياة.
صرخت:
“لِمَ فعلت به ذلك أيها الظالم؟ أَمِن أجل الذهب؟! لو أنك سألتني، لأخبرتك عن مكانه، ولا حاجة بك لقتله!”
حينها قال لي الشيخ:
“اسمع يا ياسر… ما دمت ابن زبيدة، فأنت إذًا ابن أخي… لحمي ودمي. وكل ما حصل كان بسبب أمك وأبيك. أنا من أردت الزواج بأمك، لكن أخي سبقني وتزوجها سرًّا دون علم أحد. أخبرتُ أبي، فربط أباك كما أنت مربوط الآن، ثم سقيته السم فمات. أما أمك، فقد أوعزت للناس أنها ساحرة، وأشعت بأنها من قتلت أباك بسحرها. فحرّضت أهل القرية عليها، وأمرت بحرق الدار بمن فيها، حتى القابلة التي ساعدتها على الولادة.”
ثم نظر إليّ وقال:
“لكن كيف نجوتَ أنت؟ هذا أمر لا أفهمه. أتراك تقول الحقيقة؟ أم أنك محتال؟… لكن لا يهم. سيكون مصيرك كمصير صاحبك.”
ثم خرج وأغلق الباب بعنف.
تركني في حيرة وخوف، لا أدري متى سيؤمر بقتلي. لم أعد أستطيع النوم. تخيّلت ساعتي الأخيرة، فأصابتني نوبة هلع. سمعت وقع أقدام تقترب. ازداد خفقان قلبي. فتح الباب، فدخلت امرأة ملثّمة، لا يظهر من ملامحها شيء. تقدّمت نحوي، وفكّت قيودي بصمت. وبعدما تحرّرت، وقفت. لم أفكّر كثيرًا. إنها ساعة الهرب.
خرجت أركض من الزريبة، ومن بيت الشيخ، وتوجهت إلى بيت الإمام. أخبرته بكل شيء. ظلّ صامتًا، ينظر إليّ، فهو يعلم ظلم الشيخ وبطشه، ثم قال:
“اسمع يا ياسر… سأجمع أهل القرية وأخبرهم بما قلته. لعلّ فيهم من يستفيق من غفلته، ويقف مرة واحدة في وجه الطاغية.”
وبعد صلاة العشاء في الليلة نفسها، وقف الإمام أمام المصلين، وقال:
“إلى متى ستظلون على هذا الحال؟! أألفتم حياة الذل والخنوع؟! إلى متى سيبقى شيخ القرية يمتهن كرامتكم؟ لقد أخذ منكم كل شيء… الأرض، المال، وحتى الماء! وهو من أوردكم إثم امرأة، وشاركتم في قتلها بعد إشاعة دنيئة زعم فيها أنها ساحرة وهي بريئة من السحر.”
عندها، هاج الناس وماجوا، وأجمعوا أنهم لن يسكتوا بعد اليوم عن الظلم
تحمّسوا وأخذوا عصيّهم، وقصدوا بيت الشيخ، إلا أن الحرس كانوا لهم بالمرصاد، فأوسعوهم ضربًا. حينها تراجع الناس وهرب كلٌّ إلى داره، أمّا أنا فقد بقيت مختفيًا في بيت الإمام، أراقب الوضع من بعيد.
لما رأيت الناس تجري في كل جانب، علمت أن الشيخ قد أرسل كلابه خلفهم، ولن يطول الوقت حتى يمسك بي مرة أخرى، وهذه المرة لن يتوانى عن قتلي.
لم أستطع النوم تلك الليلة، خرجت متسللًا وذهبت إلى المقبرة، هناك أرتاح أكثر من أي مكان آخر، لكنها كانت ليلة حالكة الظلام.
هناك رأيت مرة أخرى تلك المرأة… المرأة الملثّمة. خرجت لي من بين القبور، وقفت أنظر إليها مذهولًا، ثم سألتها: “من أنتِ؟”
لم تجب على سؤالي، لكنها قالت: “كما حميناك من النار في أول يوم في حياتك، سنحميك من الشيخ اليوم، ولن يقدر أن يمسك بسوء.”
ثم التفتت ومشت حتى اختفت بين القبور في الظلام. قلت في نفسي: “ربما تكون امرأة مجنونة…”
اتكأت قرب أحد القبور، كنت منهكًا للغاية، غلبني النعاس، فنمت حتى صباح اليوم التالي.
قمت من مكاني، خرجت من المقبرة وقصدت القرية متسللًا. سمعت الناس يتكلمون قائلين إن بيت شيخ القبيلة قد احترق في الليلة الماضية، وقد مات حرقًا داخله.
لم أصدق هذا الكلام، فمشيت حتى وصلت أمام بيت شيخ القبيلة، فوجدته فعلًا متفحمًا. سبحان الله، لقد مات بنفس الطريقة التي قُتلت بها والدتي.
ترى، من فعل به هذا؟ لا يهم، المهم أن الغمّة قد انزاحت عن صدور الناس، ولم يعد هناك من يتسلّط عليهم بالظلم والعدوان.
عدت إلى المقبرة لأُخرج الذهب، فلم أجد شيئًا… كانت الحفرة فارغة.
وجدت هناك ورقة كُتب فيها: “إن وجدت هذه الورقة، فالأرجح أن الشيخ قد مات، ومن أخذ الذهب هو المقدّم.
أعلم أن هذا قد يُغضبك، لكن الشيخ كما كان متعسفًا على الناس، فقد كان أكثر ظلمًا لي.
أنا أيضًا ذُقت من شرّه وأذاه، فاعتبر أن ما أخذته منك هو الثمن… ثمن إنهاء حياة الشيخ انتقامًا لوالديك ولكثير من المظلومين.”
ضحكت حينها، فلم أكن أتوقّع هذه النهاية. كنت أحذر الشيخ، لكني نسيت أمر المقدّم.
المهم… انتهى عهد الطاغية، وولّى زمن المهانة والذل.
بعد الذي جرى، هاجت الجموع في القرية، وهجموا على الضريح بالفؤوس والمعاول، فهدموه وسوّوه بالأرض، ولم يعد يأتي إليه الزائرون.
فكان العام التالي عامًا من الخير والبركة، أمطرت السماء كما لم تمطر من قبل في تلك الأنحاء. امتلأ النهر والوديان، وعادت الفلاحة والزراعة للازدهار، قلّت الأمراض، وقلّ الفقر، وعادت البهجة للوجوه، والأمل للكبار والصغار.
لكن لازلت لم أكشف بعد سرّ تلك المرأة الملثّمة، صرت أجدها وأراها في كل مكان، كأنها تتبعني.
وحين أخبر الناس أني أرى امرأة وأشير إليها، كان الجميع يسخر مني، ويقولون إنهم لا يرون شيئًا، لا يرون أحدًا بجواري.
بعضهم اتهمني بالجنون، لكني واعٍ تمامًا أن الملثّمة ترافقني وتراقبني، كما أني واعٍ أيضًا أنها من الجن، وتسكن في المقابر… بين الأموات.
فهل تعتقد أن القصة حقيقية؟ أم أنها من نسج الخيال، كما وصفها بعض أصدقائي؟ أجبني في التعليقات.
إرسال التعليق