جاري التحميل الآن

تزوجت جنية مسلمة

بقلم:عابر العوالم

أنا علي، أقطن في قرية العروبية، إحدى المناطق التابعة لمدينة القنيطرة. كنت أعيش حياة هادئة وعادية مع والديّ، مثل أي عائلة أخرى، حتى رحلت أمي عن الدنيا وأنا في سن الخامسة عشرة. وبعد ثلاث سنوات، توفي والدي، فأصبحت أعيش وحدي في منزلنا. لدي أخت كبرى متزوجة، تسكن في مدينة نائية بعيدة عنا.

بعد أيام قليلة من وفاة والدي، زارني عمي وقال لي: “عليك أن تغادر هذا البيت.” استفسرت منه: “وما السبب؟” فأجاب: “لا يصح أن تبقى هنا بمفردك.” كان عمي يعيش في القرية ذاتها، على مقربة منا، وله أبناء كثيرون. أضاف قائلاً: “عائلتي كبيرة، وبيتي صغير، وبيت أخي هذا من حقي. أما أنت، فبإمكانك أن تبحث عن مكان آخر لتعيش فيه.” رددت عليه: “هذا البيت شيّده والدي، وهو ملكي وملك أختي، وليس لك أي حق فيه.” فاستشاط غضبًا وغادر المكان.

بعد قليل، عاد مع أبنائه، وهم يحملون العصي. صُدمت وسألته: “ما زلت لا أفهم، هل هكذا تُعامل ابن أخيك؟ تريد أخذ حقي وطردي؟ إلى أين أذهب؟” أجابني بقسوة: “هذا ليس شأني. اخرج من البيت والقرية الآن، وإلا سيكون هذا آخر يوم في حياتك.” لم يكن لدي خيار، فخرجت من البيت ومن القرية، وتاهت خطواتي بين الوديان والجبال.

ظللت أسير سبعة أيام، أنام في العراء، حتى استلقيت يومًا تحت شجرة في أرض زراعية. استيقظت على صوت رجل كبير السن، بلحية بيضاء، ينظر إلي مستغربًا ويقول: “لماذا تنام هنا يا بني؟ أليس لك بيت؟” نهضت ونفضت التراب عن ملابسي وقلت: “أعتذر إن نمت في أرضك، أنا مجرد عابر سبيل.” سألني: “أليس لك عائلة؟” أجبته: “عائلتي ماتوا جميعًا، لم يبقَ لي أحد.”

قال الرجل: “هل تريد العمل معي؟ أملك مزرعة قريبة، يمكنك العناية بها ورعي المواشي ليلاً.” لم يكن لدي خيار آخر، فوافقت وذهبت معه. كانت المزرعة كبيرة، بها الكثير من الأغنام والبقر. كنت أعمل ليلاً وأرتاح نهارًا. سألته إن كنت أستطيع البقاء هناك نهارًا لعدم وجود مأوى لي، فأخذني إلى كوخ صغير قريب وقال: “هنا يمكنك قضاء نهارك، وبالليل تعمل في المزرعة.” شكرته بشدة ووعدته ببذل قصارى جهدي.

بدأت العمل عند غروب الشمس وأنتهي بعد الفجر. مرت الأيام والأسابيع والشهور، وتعرفت على بعض سكان المنطقة. كانت المنطقة تضم أراضي واسعة وفلاحين كبارًا، كل منهم مشغول بأرضه ومواشيه.

في إحدى الليالي، بينما كنت أحرس الأغنام، سمعت صوت بكاء امرأة. خرجت مسرعًا من حظيرة الأغنام، وتبعت الصوت حتى وصلت إلى بيت ملاصق للمزرعة. توقفت عند الباب الخارجي، وكان صوت البكاء يزداد. كنت أعلم أن هذا البيت خالٍ إلا من عساس يعيش في كوخ صغير قريب، رأيته ثلاث مرات من قبل وكنت أسلم عليه ليلاً لكنه لم يرد. اقتربت من الباب الكبير، فوجدته مفتوحًا. ظننت أن العساس قد يكون في مشكلة، فدخلت لأرى ما يحدث.

كان البيت كبيرًا ومظلمًا. سرت في ممر طويل حتى وصلت إلى غرفة مغلقة كان صوت البكاء ينبعث منها. ناديت: “هل هناك أحد؟ هل تحتاجون مساعدة؟” توقف البكاء فجأة، وساد صمت ثقيل. ترددت، ثم قررت الخروج. وبينما أسير نحو الباب، فُتح باب الغرفة خلفي. التفت فإذا بامرأة كبيرة ترتدي ثوبًا أسود، لا يظهر في الظلام سوى وجهها. قالت: “نريدك يا بني، تعالَ ساعدنا.” اقتربت منها ودخلت الغرفة، فأغلقت الباب.

لم أشعر بالخوف، ربما بسبب البرد أو الإرهاق. في الغرفة، رأيت ثلاث فتيات ينظرن إليّ ويضحكن. استغربت، فكيف كن يبكين ثم ضحكن فجأة؟ سألتهن: “كيف أساعدكن؟” ضحكن جميعًا، وزاد توتري. اقتربت المرأة الكبيرة مني وهي تحمل كأسًا طينيًا فيه ماء وقالت: “اشرب هذا.” كان وجهها مخيفًا وقبيحًا، وشعرت أنها ليست بشرية، بل من الجن، وكذلك الفتيات. صرخت: “ماذا تريدون مني؟” فاختفت المرأة والفتيات فجأة، وساد الظلام.

هربت من الغرفة وأنا أصرخ طالبًا المساعدة، وفي الممر تعثرت وسقطت. استيقظت في الصباح تحت الشمس الحارقة، ملقى في حديقة خلف البيت بجوار شجرة قديمة. كان رأسي يؤلمني بشدة، وشعرت كأنني ضُربت. عندما وصلت إلى باب المزرعة، رأيت رجلاً صُدم عندما رآني وقال: “بسم الله، من أين خرجت؟” طمأنته ورويت له ما حدث ليلاً.

قال الرجل، وهو العساس: “أنا أحرس هذا المكان نهارًا فقط، لا أستطيع البقاء ليلاً بسبب الأشياء المرعبة التي أراها وأسمعها.” سألته: “لماذا تعمل هنا إذن؟” أجاب: “أنا رجل مسن، تجاوزت السبعين، وليس لي أهل أو مكان آخر أذهب إليه.” استغربت، فقلت: “لكني رأيتك ليلاً مرة وسلمت عليك!” نفى ذلك وقال: “هذا مستحيل، هذا المكان مسكون، وأنا لا آتي ليلاً.” أدركت أن من رأيته كان من الجن.

منذ ذلك الحين، بدأت أشغل القرآن في الراديو ليلاً أثناء عملي. في إحدى الليالي، سمعت ضجيجًا في حظيرة الأغنام. ركضت إلى هناك، فوجدت امرأة جالسة وسط الحظيرة، مغطاة الرأس، وملابسها رثة. كانت الأغنام خائفة وتتحرك بعصبية. سألتها: “من أنت؟ ماذا تفعلين هنا؟” رفعت رأسها وكشفت وجهها، عيناها تلمعان في الظلام، وقالت: “أنا عابرة سبيل، جائعة، هل عندك طعام؟”

تسمرت في مكاني، لكنني ذهبت وأحضرت خبزًا وحليبًا. عندما عدت، لم أجدها. بحثت عنها دون جدوى. في الليلة التالية، شعرت بإرهاق شديد وحمى، فقررت العودة إلى الكوخ. لكنني فوجئت بباب الكوخ مفتوحًا، رغم أنني أغلقته. دخلت فوجدت تلك المرأة جالسة على كرسي خشبي قديم. سألتها: “ماذا تفعلين هنا؟” أجابت: “هذه قصة طويلة. أرجوك، عائلتي تطاردني وتريد قتلي.” سألتها: “لماذا؟” لكنها رفضت الإجابة.

أعطيتها كأس حليب، فشربته بنهم. ومع اقتراب الفجر، نهضت وقالت: “يجب أن أذهب.” خرجت مسرعة دون إغلاق الباب. تبعتها لأسألها أين تسكن، لكنها اختفت دون أثر.

رجعت إلى الكرسي الذي كنت جالسًا عليه، ونظرت إلى زلافة الحليب. كانت ممتلئة كأنها لم تُمس! رأيت تلك المرأة تشرب منها بعيني، لكن الزلافة بدت كأنها لم تُستخدم. أدركت حينها، بنسبة 100%، أن تلك المرأة ليست بشرية، بل جنية بلا شك. تذكرت فجأة أنني تركت المزرعة دون حراسة، وكان الفجر قد اقترب. هرعت إلى المزرعة وجلست هناك حتى طلع النهار. جاء الرعاة، ثم عدت إلى الكوخ وقضيت النهار نائمًا دون أي أحداث غريبة.

لكن عندما حل الليل، ذهبت إلى المزرعة لأعمل كالعادة. في تلك الليلة، بدأت أسمع أصوات طرق على الباب الخارجي الكبير. كلما ذهبت لأتفقد، لم أجد أحدًا. أدركت أنها الجن، فقررت تجة الطرق وعدم التحقق حتى الصباح. تحدثت مع أحد الرعاة عن هذه الأحداث، فقال لي: “الجميع هنا يعلم أن هذه الأراضي والمزارع مسكونة بالجن. لا تخف، وحاول أن تتعايش مع الأمر.”

في تلك اللحظة، قررت مواجهة هذه الجن، فهي على الأغلب شياطين. السلاح الأقوى ضدهم هو القرآن الكريم. بدأت أقرأ القرآن صباحًا وليلاً، وبالرغم من شعوري بالثقل أحيانًا، استمريت. مرت شهور دون أن أرى شيئًا، لا جن ولا جنيات. لكن مع الوقت، قللت من القراءة تدريجيًا. كنت أحمل راديو صغيرًا أشغل فيه القرآن أينما ذهبت.

في إحدى الليالي، بينما كنت أحرس، بحثت عن الراديو فلم أجده. تذكرت أنني نسيته في الكوخ. قررت الذهاب لأحضره بسرعة. فتحت باب الكوخ، أخذت الراديو، وفي طريق عودتي عبر الزرع والأشجار في ظلام القرية، شعرت كأن شيئًا يتبعني. التفت فلم أجد أحدًا، لكن سمعت صوت باب الكوخ يُضرب بقوة. ركضت إلى الكوخ، فتحت الباب، فإذا بامرأة ذات وجه أبيض جدًا وشعر طويل يصل إلى الأرض، واقفة على طاولة خشبية. قفزت منها وتراجعت إلى الخلف. خفت بشدة، لم أستطع النطق. قالت لي: “أهلاً يا سيد علي.” سألتها: “تعرفينني؟ من أنت؟” ضحكت دون إجابة. أدركت أنها جنية.

حاولت أن أتعوذ بالله، لكن شعرت كأن يدين باردتين كالثلج تمسكانني من الخلف، فلم أستطع النطق. سقطت مغشيًا عليّ. استيقظت مع الفجر، جسدي مكدود ورجلاي متورمتان. ذهبت إلى حظيرة الأغنام، فوجدت الرعاة قد جاءوا واستغربوا غيابي. رويت لهم ما حدث، فقال أحدهم: “يبدو أن الجن تمكنوا منك، لقد أصبت بمس.”

خرج الرعاة بالمواشي إلى المرعى، وقضيت النهار نائمًا في الحظيرة، رافضًا العودة إلى الكوخ. بدأت أفكر في بيت والدي الذي أخذه عمي. قررت العودة إليه لأعيش في سلام. قبل غروب الشمس، عاد الرعاة وأدخلوا المواشي ثم عادوا إلى بيوتهم. بقيت وحدي في تلك الليلة المظلمة.

بينما كنت جالسًا أمام باب الحظيرة، رأيت الباب الكبير يُفتح ببطء دون أن يكون هناك أحد. فجأة، دخل أربعة أشخاص، ثم تبعهم آخرون حتى كأنهم قبيلة كاملة من الجن. امتلأ المكان بهم، وكنت أسمع أصواتهم تتداخل كأنني في سوق. لم أفهم ما يقولون، ربما كانوا يتناقشون كيفية قتلي. فجأة، ساد الصمت، وشعرت كأن يدي ورجلي تحررتا. نهضت وسطت بينهم كالتماثيل الثابتة، وهربت حتى وصلت إلى مزرعة مجاورة.

هناك، رأيت عساس الليل، الذي كنت أعلم أنه من الجن. بدا مصدومًا وقال: “ما بك؟ لماذا تركض؟” أخبرته أن المزرعة مسكونة وقبيلة من الجن هاجمتني. حاول تهدئتي وأدخلني إلى بيت مهجور، وأجلسني في زاوية. أحضر لي ماء، لكنه كان يبتسم بطريقة أرعبتني. فجأة، سمعنا ضجيجًا عند باب المزرعة. قال: “لقد جاؤوا يبحثون عنك.” أخذني إلى غرفة، أغلق الباب، وقال: “ابقَ هنا ولا تُصدر صوتًا، سأتولى الأمر.”

بقيت في الغرفة المظلمة أفكر: هل هذا العساس بشري أم من الجن؟ هل هو متفق معهم؟ فجأة، أضيئت شمعة صغيرة في زاوية الغرفة. نظرت فإذا بامرأة مستلقية، نهضت مفزوعة كأنها خائفة مني. سألتها: “هل أنت من الجن؟” أجابت: “هذا غير مهم.” حاولت فتح الباب للهرب، لكنها تحركت بسرعة ووقفت بيني وبين الباب وقالت: “الجميع بالخارج يبحثون عنك، لا تعرض حياتك للخطر. أنت ضيف آمن هنا.”

اقتربت مني بخطوات ثقيلة وقالت: “علي، ألا تريد العودة إلى بيت والدك؟” صُدمت. كيف عرفت اسمي وقصتي؟ سألتها: “من أين تعرفينني؟” ضحكت وقالت: “أعرف عنك كل شيء. سأعرض عليك صفقة ستشكرني عليها: سأعيدك إلى بيت والدك الذي أخذه عمك، ولن يستطيع أحد إخراجك منه، لكن بشرط.” سألتها: “ما الشرط؟” قالت: “تتزوجني وتطيع أوامري.”

ترددت، كيف لجنية أن تتزوج بشريًا؟ هل هذا زواج حقيقي أم خيال؟ قالت: “ما رأيك؟” وافقت، لكن سألتها: “كيف سأستعيد البيت وعمي يسكنه؟” أجابت: “دع ذلك لي. ابقَ في هذا البيت المهجور أربعة أيام، وفي اليوم الخامس، عد إلى قريتك واذهب إلى السوق، لا إلى البيت.”

نفذت ما طلبته. بقيت في البيت المهجور خمسة أيام، وفي اليوم السادس، عدت إلى قريتنا. كان يوم سوق. الناس فرحوا برؤيتي وقالوا إن عمي يبحث عني منذ خمسة أيام. ذهبت إلى البيت الذي أخذه عمي، لكنه لم يكن هناك. قال الجيران إنه عاد إلى بيته القديم. ذهبت إليه، ففوجئ بي وهرع نحوي، وجهه شاحب، وقال: “أخيرًا وجدتك! بحثت عنك كثيرًا!”

سألته: “تبحث عني الآن بعدما طردتني؟” بدا منهكًا وقال: “لم أنم منذ أربعة أيام. الجن أشعلوا النار في البيوت، هربت في الليلة الأولى. عدت لكن لم أجد أثر النار. في الليلة التالية، سمعنا ضحكات مخيفة تهز البيت. وفي الليلة الثالثة، جاءت كائنات مخيفة ترتدي السواد، بأيدٍ طويلة ووجوه مرعبة، وقالوا لي: ‘اخرج من بيت صاحبه، وإلا ستعرف مصيرك.’ تركت البيت بالأمس.” اعتذر مني بحرارة.

قلت له: “حسنًا، لا مشكلة.” عدت إلى بيتي بعد شهور من المعاناة والحراسة في المزرعة والنوم في الكوخ. أخيرًا، استطعت الراحة.

عشت مع تلك الجنية سنوات دون أن يعلم أحد. أختي الكبرى كانت تسألني دائمًا: “لماذا لم تتزوج؟” كنت أجيب: “لم أجد الفتاة المناسبة بعد.” كانت الجنية تزورني ليلاً وتغادر قبل الفجر. في إحدى الليالي، كنت في عرس بالقرية. فجأة، شعرت بها تسيطر على جسدي. بدأت أرقص بشكل هستيري، وسط دهشة الجميع، إذ لم أكن أرقص في الأعراس من قبل. سقطت مغشيًا عليّ.

استيقظت على صوت الفقيه، إمام المسجد، يقرأ القرآن عليّ. قال مبتسمًا: “الحمد لله على سلامتك، لقد تخلصت من الجنية العاشقة التي كانت تسكنك.” شعرت بثقل يُرفع عن صدري. أدركت أن الجن الكافر لا يعطيك شيئًا دون مقابل، وهو غالبًا أن تبعد عن الدين وطريق الحق.

منصة تفتح بوابات التجربة... حيث تُهمس الأرواح للعقول، ويذوب العلم في طيف الإيمان، ويتوارى الظاهر خلف ستار الخفي. هنا، لا نكتفي بالرؤية بل نُبصر، ونغوص بلا خريطة في عوالم لا تُرى... نسترق السمع لأسرار لم تُكتب، ونلتمس أثر الجن، وشطحات الأحلام، ونبضات الطاقات، ولغة الرموز التي لا يفك شيفرتها إلا من دخل الكهف مختارًا

إرسال التعليق

You May Have Missed

error: