جاري التحميل الآن

البئر الذي يعكس أرواحًا أخرى

بقلم:العابر

 البئر الذي يعكس أرواحًا أخرى

هناك أماكن في هذا العالم لا يجب الاقتراب منها… أماكن تنبض بالسر، وتتنفس الظلام، وتخفي خلف صمتها أبوابًا لا تُفتح إلا بثمن فادح. في إحدى القرى النائية، يختبئ بين الأشجار بئر قديم، يقال إن من يجرؤ على النظر في مياهه لن يرى انعكاسه كما يعرفه، بل شيئًا آخر… نسخة مظلمة منه، تنتظر اللحظة المناسبة لتخرج.

الليلة… سنقص عليكم ما حدث لفتاة كسرت القاعدة، ونظرت في ذلك الماء. هذه القصة لم تُروَ إلا مرة واحدة… ومن سمعها لم يعد كما كان.

كانت القرية صغيرة، تحيط بها الغابات الكثيفة من كل الجهات، ولا يجرؤ أحد على الخروج بعد غروب الشمس. في وسط هذا السكون الموحش، ظلّت الحكايات القديمة تتناقل بين الأهالي عن بئر غامض يقع على طرف الطريق المؤدي إلى المقبرة القديمة. قالوا إن البئر حُفر منذ مئات السنين، وإن من بناه لم يكن بشرًا بالكامل، بل كائنًا يعرف أسرار العبور بين العوالم.

كان كبار السن يروون بحذر أن الماء فيه لا يعكس وجوه الناس كما هي، بل يظهر حقيقتهم الخفية… أو نسختهم الأخرى، النسخة التي لا يجب أن تخرج إلى العالم. لهذا السبب، كان الجميع يتجنب الاقتراب منه، إلا فتاة واحدة… ليان.

ليان لم تؤمن بالخرافات. كانت ترى أن كل ما يُقال عن البئر ليس سوى أوهام صنعها الخوف. لكن في تلك الليلة، دفعها الفضول للخروج وحدها. كان القمر مكتملًا، وضياؤه الفضي يغمر الطريق كأنه يرشده. مع كل خطوة، كان الصمت يزداد ثقلًا، حتى إنها صارت تسمع دقات قلبها أوضح من وقع أقدامها.

عندما وصلت، كان البئر يقف هناك، ككتلة من الظلام، وحجارته الملساء تعكس ضوء القمر مثل جلد أفعى. اقتربت ببطء، ومدت جسدها لتنظر في داخله. في البداية، لم ترَ شيئًا سوى السواد… ثم ظهر وجهها. أو هكذا ظنت.

لكن هذا الوجه لم يبدُ مألوفًا. كانت العيون أوسع، والابتسامة متجمدة وكأنها محفورة على الجلد. هناك شيء في ملامحها كان يهمس بأنها ليست ليان… بل شيء يتقن تقليدها.

ثم جاء الصوت… صوت خافت، لكنه بدا وكأنه ينبعث من داخل رأسها لا من الهواء:

> “لقد فتحتِ الطريق… والآن… عليكِ أن تدخلي.”

شعرت بشيء بارد يلتف حول معصمها، كأن الماء نفسه صار له يدان. قبل أن تدرك ما يجري، وجدت نفسها تُسحب إلى الداخل. كان إحساس الغرق مختلفًا… لم يكن ماءً تمامًا، بل مزيجًا من سائل ثقيل وضباب خانق، ورائحة طين قديم.

عندما فتحت عينيها، لم تكن في البئر، بل في ممر طويل ضيق، جدرانه مصنوعة من حجر داكن تتساقط منه قطرات سوداء لزجة. الأضواء التي أضاءت الممر لم تكن نارًا، بل خيوطًا مضيئة تتحرك ببطء وكأنها تتنفس.

على الجدران، كانت هناك رسومات لوجوه بشرية، لكنها مشوهة. عيونهم سوداء بلا بياض، وأفواههم مفتوحة في صرخة أبدية. شعرت قشعريرة تجري على طول عمودها الفقري، لكن الخوف لم يمنعها من المضي قدمًا.

خطت خطوات حذرة، لكنها لاحظت أن هناك وقع أقدام يتبعها. التفتت فجأة… لم يكن أحد خلفها، لكن ظلّها كان يمتد على الأرض أطول مما يجب، ثم يصعد ببطء على الجدار حتى يختفي في السقف.

في نهاية الممر، وقف باب خشبي ضخم، محفور عليه اسمها بخط غريب، وكأن النقوش تنبض بحياة خاصة. ترددت، لكن الباب فتح من تلقاء نفسه، وكأن شيئًا ما كان ينتظرها منذ زمن طويل.

خلف الباب، وجدت البئر نفسه… لكن هذه المرة كان في عالم آخر، السماء فيه حمراء داكنة، والريح تحمل صرخات بعيدة. وفوق البئر، كانت نسختها المظلمة واقفة، بنفس العيون السوداء والابتسامة الثابتة.

قالت بصوت بارد كالمطر:

> “الآن… دورك أن تبقي هنا، وأنا سأعود مكانك.”

حاولت ليان التراجع، لكنها شعرت بالأرض تحتها تتحول إلى ماء لزج، وغرقت قدماها فيه. تقدمت النسخة ببطء، دفعتها بلا عنف، وكأن الأمر محتموم. سقطت في البئر مرة أخرى، والماء أطبق عليها، لكن هذه المرة لم تشعر بأنها تغرق… بل وكأنها تُمحى.

وفي القرية، خرجت ليان من الظلام، تنفض عن ثيابها الماء. ابتسمت للجميع، لكن من عرفوها شعروا بأن هناك شيئًا مختلفًا في تلك الابتسامة… شيئًا لا ينتمي للبشر.

يقول أهل القرية إن ليان تغيّرت بعد تلك الليلة. لم تعد تضحك كما كانت، وصارت تراقب وجوه الناس بصمت طويل، كما لو كانت تدرس ملامحهم. والأغرب… أن من ينظر في عينيها لثوانٍ يشعر ببرودة في عظامه، وكأنه يقف على حافة بئر عميق.

أما البئر نفسه، فقد عاد ساكنًا… لكن كلما أشرقت الليالي القمرية، يمكن أن ترى فيه انعكاسًا يبتسم لك… ابتسامة ليست بشريا

منصة تفتح بوابات التجربة... حيث تُهمس الأرواح للعقول، ويذوب العلم في طيف الإيمان، ويتوارى الظاهر خلف ستار الخفي. هنا، لا نكتفي بالرؤية بل نُبصر، ونغوص بلا خريطة في عوالم لا تُرى... نسترق السمع لأسرار لم تُكتب، ونلتمس أثر الجن، وشطحات الأحلام، ونبضات الطاقات، ولغة الرموز التي لا يفك شيفرتها إلا من دخل الكهف مختارًا

إرسال التعليق

You May Have Missed

error: