أين اختفت جدتي؟ لغز الرجل المنعزل
لما كنت في الثانية من عمري، كنت لا أزال أدرس في الجامعة. لي أخ يصغرني بثلاث سنين اسمه مصطفى، نحيا حياة بسيطة كسائر الأسر، ولي جدة تعيش وحيدة في قرية بعيدة عن مدينتنا. كنت وأخي نادرًا ما نزورها، أما أمي فكانت تذهب لزيارتها بين الفينة والأخرى، على الأقل مرة في الشهر. كانت جدتي ترفض زيارتنا؛ فقد أتاها المرض وكبر السن، وصارت لا تريد فراق بيتها القديم. في يوم من الأيام، بعد عودتي من الكلية، دخلت البيت فوجدت أمي مهمومة حزينة، وأبي جالسًا بجانبها وقد ظهرت عليه الحيرة. فسألته: ما الأمر؟ فلم يجيبا. دخلت الغرفة التي أتقاسمها مع أخي مصطفى، سألته: ما الذي يجري؟ فتنهد مصطفى ثم قال: لا ندري، لكن أمي تتصل على جدتي، لكنها لا تجيب، منذ يومين وهي تحاول الاتصال بها دون جدوى، وهذا ليس من عادة جدتي، فهاتفها الصغير لا يفارقها. سألت مصطفى: وهل اتصلتم بأحد جيرانها ليطمئنكم عليها؟ رد علي: فعلاً، اتصلنا بأحد الجيران، ذهب وترقب باب بيت جدتي، لكنها لم تجبه ولم تفتح الباب. في تلك اللحظة نادانا أبي، خرجنا من غرفتِنا وتوجهنا نحو البهو، وجدت أمي تبكي، نظرتُ إليها بأسى، لم أدرِ ما أقول، ثم قال أبي: استعدوا، سنسافر جميعًا إلى القرية، سأوصلكم إلى هناك ولن أمكث طويلًا، عليّ أن أرجع، فلديّ عمل أقوم به. ستبقون هناك رفقة والدتكم لكي تطمئنوا على جدتكم، وسأعود لأخذكم بعد أيام. هذا إن كان كل شيء على ما يرام، هيا ماذا تنتظران؟ اجمعا ما ستحتاجانه في السفر. كانت الساعة حوالي الخامسة عصرًا، وكان والدي ينوي إيصالنا ثم العودة في نفس الليلة لكي يلتحق بعمله في اليوم الموالي. كان أخي مصطفى متذمرًا من هذا السفر، بل وقال لي: لمَ لمْ نذهب نحن الاثنان؟ أليس يكفي أن تذهب لوحدك مع أمي؟ قلت له: أي فكرٍ هذا يا رجل؟ ألا تصبر في الملمات؟ سنذهب لنطمئن على جدتي ونرافق والدتنا، وما هي إلا أيام قلائل حتى نعود. أبدى مصطفى تذمره، ثم أضفت قائلًا: يجب أن نذهب نحن الاثنان، تعلم أن جدتي تعيش في بيت منعزل في قرية أكثر انعزالًا وانقطاعًا. رد متضجرًا: وما عساي أفعل؟ قلت له مبتسمًا: تؤنسني وتؤنس نفسك، أليس هذا كافيًا؟ هيا، عجّل بجمع حقيبتك، فأبي سيغضب إن أخرناه. أسرعنا في جمع ملابسنا، حملت معي بعض الكتب ومصحفًا صغيرًا أقرأ فيه هناك، لم يكن لدي هاتف في ذلك الوقت. القرية التي تعيش فيها جدتي كانت تقع حرفيًا بين جبال شاهقة حتى إن الشمس لا تصلها إلا في وسط النهار. أذكر حين كنت أزورها منظر القرية القابعة في السفح، تحيط بها تلك الجبال من كل جهة، كان منظرًا مهيبًا ومريبًا. والآن نحن في الطريق إليها، وغالبًا سنصل ليلًا، والأدهى أن بيت جدتي لم يكن في وسط القرية، بل عليك أن تجتازها في طريق وعر ومنطقة أحراش بعد منحدر ضيق، حيث تجد أمامك بيوتًا قروية متفرقة، قديمة جدًا، وبيت جدتي هو أبعدها. وأثناء الطريق، كانت أمي لا تفتر عن الدعاء، والوجل ظاهر عليها. كانت المسافة بين المدينة والقرية حوالي 100 كلم، لكنها تقطع في وقت طويل لوعورة الطريق وظلمته وشدة ضيقه في بعض الأماكن. وبعد الغروب بقليل، كنا على وشك الوصول. لاحظنا أن السيارات الآتية من الجهة الأخرى كانت تعطينا إشارات بالضوء، فتساءل أبي: لمَ هذه الإشارات؟ إنهم يعلموننا بشيء سنجده أمامنا، مما يحذرونني. فجأة ظهر لوالدي أن الطريق مقطوع أمامه، هناك أحجار كثيرة، هل تساقطت من الجبل؟ ربما. خفف والدي السرعة ثم توقف. قالت أمي: يجب أن تنزل رفقة الأولاد كي تزح هذه الحجارة من هنا كي نتمكن من المرور. رد والدي بصوت خافت: لن نكمل طريقنا، علينا أن نعود، سنرجع. استغربت أمي، لكن أبي أدار السيارة، ثم تفاجأ بأربعة رجال ملثمين يقفون أمامه. صُدمنا جميعًا، وتساءلت مذعورًا: من هؤلاء؟ وماذا يريدون منا؟ قرر والدي أن يصدمهم ولا يأبه بهم، لكنهم بسرعة ألقوا شبكة مليئة بالمسامير أمام السيارة، فلم يجد أبي بُدًّا من التوقف. اقترب أحدهم من السيارة وهو يقول لوالدي: تريد أن تغادر قبل أن تتعرف علينا ونتعرف عليك؟ ابتسم والدي ووضع يده إلى جانب مقعده، نعم، لقد كان مع والدي سلاح بحكم عمله، وهو مستعد لاستخدامه إن لزم الأمر. في تلك اللحظة، أتى ملثم آخر وقال لوالدي: نحن نُقدّر أنكم أسرة في سفر، لن نؤذيكم، نريد فقط أن تعطونا مالًا أو ما تحملونه من متاع ذي قيمة. قال له والدي: نعم، لكن إن أعطيتكم الآن، فهل علي أن أعطيكم أيضًا حين أكون راجعًا؟ هل سأدفع لكم مرتين؟ سأله أحدهم: ومتى تنوي العودة؟ قال: في هذه الليلة، سأوصل زوجتي وأبنائي ثم أعود. استغرب قاطع الطريق وهو يقول: لكن لماذا؟ فلا تزال أمامك مسافة طويلة لتصل لأقرب مدينة من هنا. في تلك اللحظة، قلت له: لقد جئنا لزيارة جدتي، وهي تسكن في قرية ليست بعيدة من هنا. حينها قال قاطع الطريق: أنتم من أهل المنطقة؟ كانت والدتي تبكي حينها، فقال لها: لن نؤذيكم، لا تخافي يا خالة. ردت عليه: أنا لست خائفة منكم، أنا خائفة على أمي، علي أن أذهب لرؤيتها. رد قاطع الطريق قائلًا: أستسمحكِ يا خالة، لكن من هي والدتك؟ فقالت وهي تمسح دموعها: أمي هي فلانة بنت فلان. في تلك اللحظة تراجع إلى الوراء وهو يقول: أرجو أن تعذروا جهلنا، لم نعرفكم، ليتكم قلتم ذلك من البداية، والدتكم امرأة طيبة مباركة، نعرفها جيدًا. ثم قال كبير اللصوص لأصحابه: أزيحوا هذه الأحجار حتى يمر “مرّ” أهلنا. ثم قال لوالدي: إن احتجتم أي شيء فنحن رهن إشارتكم، ومرة أخرى نعتذر منكم ونرجو الصفح. علمنا بعد ذلك أن هؤلاء اللصوص كانوا إخوة أربعة من أهل القرية، يمتهنون قطع الطريق، هداهم الله. يعرفون جدتي حق المعرفة، وبعد أن أزاحوا الصخور التي وضعوها على الطريق، سار والدي بمحاذاتهم، فقال له أحدهم: أرجو أن تطمئنوا على الحاجة وصحتها. فقال أبي دون أن ينظر إليه: إن شاء الله، إن شاء الله. وأثناء الطريق، سرت أفكر: ما هذه البداية؟ أسأل الله أن يُسلِّم فيما هو آت. وصلنا القرية قبيل الساعة التاسعة، بعض المحلات كانت لا تزال مفتوحة، صارت الطريق أكثر انحدارًا، بلغنا قبالة البيت، شيء ما يكتم على قلوبنا جميعًا، لكن الغريب، ما إن خرجنا من السيارة حتى فُتح باب البيت، ثم خرجت جدتي، جرت أمي نحوها وهي تبكي، كانت جدتي تبدو مستغربة، سلّم عليها والدي، ثم سلّمنا عليها ونحن نسألها: أين هاتفك يا جدتي؟ لمَ لا تجيبين على اتصالاتنا؟ في تلك اللحظة كان والدي عازمًا على المغادرة، لا يريد حتى الدخول ليستريح من وعثاء السفر، فقال لي: بعد يومين أو ثلاث سأتي لأخذكم، اعتنوا بأنفسكم وبأمكم وجدّتكم، والحمد لله أني اطمأننت عليها، هذا هو الأهم. كان والدي يكلمني، وكنت في تلك اللحظة أنظر إلى جدتي، لقد كانت متغيرة، قليلة الكلام، لم تُحفل بنا ولم ترحب بنا كعادتها، يبدو أن أمرًا أهمها. لكن لمَ لم تكن تجيب على مكالمات أمي؟ أين هاتفها الصغير؟ وحتى وإن ضاع الهاتف، لمَ لم تفتح الباب حين طرقه الجيران؟ شيء ما غير مريح في الموضوع بأكمله. أثار انتباهي رجل عجوز يجلس أمام بيته المقابل لبيت جدتي، كان يقتحمنا بنظراته ولا يزيل عينيه عنا، ألا يخجل هذا الرجل؟ أليس له عمل سوى مراقبة الآخرين؟ ولما هممت بالدخول إلى بيت جدتي، كنت أحمل في يدي تلك الكتب التي أحضرتها معي، ومعها ذلك المصحف الصغير، انتبهت جدتي لذلك، فأوقفتني وهي تقول: يا ولدي، لو أعدت تلك الكتب إلى سيارة والدك لكان أفضل. قلت لها: لمَ يا جدتي؟ لا أفهم. فقالت: أعد تلك الكتب الآن، أعطها لوالدك قبل أن يذهب، لا تدخلها إلى البيت، اسمع ما أقول. قلت لها وأنا في غاية الاستغراب: أمركِ جدتي. وأعدت الكتب إلى السيارة، سألني والدي: ألا تريد أن تقرأ خلال جلوسك هنا؟ قلت: بلى، ولكن جدتي طلبت مني ألا أدخل هذه الكتب، يبدو أنها ستحتاجني لذلك، لا تريدني أن أشغل نفسي بشيء آخر. سلّمت على والدي واتجهت إلى البيت، التفتُّ، فإذا بذلك الرجل العجوز لا يزال جالسًا يراقبنا بنظراته المريبة. دخلت البيت، وجدت أمي تسأل جدتي: لمَ لم تكوني تجيبين؟ لقد أخفتِنا. فردت جدتي: إنها متعبة ولا رغبة لها في الكلام. لاحظت برودة جدتي وعدم اهتمامها بنا، حتى أمي أحسّت بذلك. ثم سمعت جدتي تقول: ما الذي جاء بكم؟ قلت لها: لقد خفنا عليكِ، كنا قلقين جدًا. ردت بشروط: قلقين عليّ؟ ثم من أنت يا بني؟ بقيت أفكر: هل بدأت جدتي تفقد ذاكرتها؟ قالت أمي: هيا يا عبد القادر، خذ أخاك واذهب إلى الغرفة الأخرى، دعني مع جدتك قليلًا. دخلنا الغرفة، ثم سألني مصطفى: هل لاحظت أن البيت يبدو مرتبًا أكثر من اللازم؟ كل الفرش والأغطية مجموعة بعضها فوق بعض في طرف الغرفة. قلت له وأنا أبسط الفرش وأضع الوسائد: لكن الأغرب هو جدتي، لقد تغيّر تعاملها كثيرًا. قال لي: إنها أعراض الشيخوخة، لا تنسَ أنها بلغت من الكِبر عتيًّا. قلت له: أنسيت المصحف الكبير الذي كانت تقرأ منه في غرفة الجلوس؟ والسبحة التي كانت لا تفارق يدها؟ قال لي: ربما هي تقرأ وتسبّح في غرفتها. ضحك وقال: أنا أتضور جوعًا، هل ستعد لنا أمي العشاء؟ في تلك اللحظة نادتني أمي، فخرجت مسرعًا، وجدتها في المطبخ، قالت لي: لا يوجد شيء لنعد به العشاء، فاذهب أنت وأخوك إلى أحد دكاكين القرية واشترِ ما سأطلبه منك إذا أردتم العشاء. أعطتني أمي ورقة كتبت فيها كل الطلبات، وهي تقول: لا أدري كيف كانت تعيش والدتي، لا شيء في بيتها يصلح للأكل. قلت لأمي: حسنًا، سأذهب رغم أني متعب للغاية بعد السفر الطويل، والآن علي أن أقطع كل تلك المسافة نحو القرية، والطريق وعر، لكن سأذهب بمفردي، فمصطفى كثير الشكوى ولن ينفعني بشيء. وأثناء خروجي، سألت جدتي: هل أحضر لكِ معي شيئًا يا جدتي؟ فأشارت لي بيدها دون كلام أنها لا تريد شيئًا. خرجت من البيت، ذلك الرجل لا يزال جالسًا في نفس الجلسة، ويطالعني بنفس النظرات، كان يجلس في الظلام، وحتى بيته، رغم أن بابه كان مفتوحًا، إلا أنه مظلم، لا سراج فيه. مشيت مهرولًا من أمامه وأنا أفكر، لا أذكر أني رأيت هذا الرجل من قبل. حين كنت أزور جدتي، كانت هذه الدار مغلقة. مررت بشبه غابة بها شجر قصير كثير، ثم صعدت تلاً مرتفعًا، على قمته يقع مسجد القرية الصغير، ومن ثم منحدر في اتجاه القرية. كانت هذه هي الطريق المختصرة، ويوجد طريق آخر تمر منه السيارات لكنه أبعد. أخذت ما يلزمني من صاحب البقالة، ثم مررت ببائع الخضار الذي رحب بي، لكنه كان فضوليًا بعض الشيء. بدأ يسألني: من أنت؟ وعند من أتيت؟ قلت له: أنا ابن فلانة بنت فلانة. فرد مبتهجًا: نعم نعم، عرفت من أي البيوت أنت. كيف حال جدتك الآن؟ سمعت أنها لم تعد تخرج من البيت. قلت له: الحمد لله، هي بخير. فقال لي: لقد خشينا أن يكون قد جاءها الأجل، وهي حبيبتنا، لكننا لم نشأ أن نتحمل مسؤولية فتح الباب، وأهلها ليسوا موجودين. جدتك امرأة مباركة وطيبة، ومن قدماء القرية الذين عاشوا فيها دهرًا.قلت في نفسي: هذا الرجل كثير الكلام. سأسأله عن الرجل الذي يسكن في البيت المقابل لمنزل جدتي. قلت له: لقد كنت آتي في السابق، ولم يسبق لي رؤية أحد يسكن هناك. رد بائع الخضار، وقد ظهر عليه الغضب: ذلك الرجل البغيض، لا يحبه أحد هنا. في ذلك البيت كانت تسكن أسرة فاضلة، لكنهم هجروا البيت منذ زمن. وقبل بضعة شهور جاء ذلك الرجل، وقال إنه ورث هذا المنزل من أصحابه. قلت له: وهل أثبت هذا الكلام؟ رد علي: لقد قال إنه كان عماً لصاحب البيت الذي مات، وهو صاحب الحق والوارث الوحيد له. وطالما لم يأتِ أحد ليطالب بذلك البيت، فغالب الظن أن ذلك العجوز البغيض قد ورث المنزل. لكنه غريب الأطوار، لا يكلم أحدًا، ولم نره يومًا في المسجد ولا في السوق. رجل غامض بمعنى الكلمة.قلت له: المهم، سأذهب الآن، الطريق طويل نحو البيت كما تعلم، فهذه المنحدرات صعبة في الليل. فسألني بائع الخضار عن اسمي، قلت له: عبد القادر. قال لي: انتبه للطريق، فالثعالب والخنازير البرية كثيرة هنا، وقد تصادف أحدها في الطريق، وإن شئت، انتظرني، سأغلق دكاني بعد قليل ثم أوصلك معي. قلت له: لا داعي لذلك، أمي تنتظرني، شكرًا لك. ولما هممت بالانصراف، قال لي: انتظر، خذ هذا المصباح الكشّاف لتنير به الطريق، وأعده لي غدًا بالنهار. قلت له: بارك الله فيك. وأخذت منه المصباح.بدأت في الصعود نحو قمة الجبل حيث المسجد، وسمعت حينها أذان العشاء. قلت: هذا جيد جدًا، إن شاء الله سأصل للعشاء ثم أكمل طريقي. وصلت إلى المسجد، كان عتيقًا وصغيرًا، وضعت كيس الأغراض عند الباب. أطلت النظر، فإذا المسجد فارغ تمامًا. لم يلبث المؤذن أن أنهى الأذان، دخلت مكان الوضوء، كنت أسمع أناسا آخرين يتوضؤون. لا بد أنه الإمام أو المؤذن. بقيت أتساءل كم الساعة الآن؟ أظن أن وقت العشاء قد فات، لكني سمعت الأذان. خرجت من مكان الوضوء، كنت أمل أن أجد أحدًا وأسأله عن الساعة، لكني تفاجأت أن لا أحد في مكان الوضوء. ثم دخلت المسجد، لا أحد في المسجد. وجدتني وحيدًا داخله، حتى الإمام غير موجود. قلت في نفسي: الناس سيصلون تباعًا، فمكان المسجد في هذا المرتفع قد يؤخر وصول المصلين.وقفت لأصلي تحية المسجد، وما إن كبّرت تكبيرة الإحرام، حتى سمعت في أذني هاتفًا يقول: “أكمل صلاتك، يجعل الله لك من أمرك خيرًا، وانْوِ أنها صلاة الجنازة على روح جدتك فلانة.” بقيت واقفًا متسمّرًا، وأنا لا أستوعب هذا الكلام. لأول مرة يحصل معي هذا الأمر. هل ألتفت لأرى من يكلمني؟ هل هي وسوسة شيطان؟ أم هلاوس الليل؟ قلت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ثم شرعت في القراءة، وقلبي يرتجف، وقد اقشعر جسدي. كنت أقرأ الفاتحة بصوت هامس راجف، ولما بلغت آخر السورة وقلت: “ولا الضالين”، سمعت من يردد معي من خلفي: “آمين”. كأني لست وحدي. كأن مجموعة من الناس تصلي خلفي، لكني أصلي تحية المسجد، وليست الفريضة. ثم صلاة الجنازة لا ركوع فيها ولا سجود. هل أصلي فعلًا صلاة الجنازة كما طلب مني ذلك الصوت؟ حاولت أن أهدئ نفسي، وأكثرت من التعوذ من الشيطان. أتممت صلاتي وفكري مشوش، لم أستطع التركيز والخشوع.ولما كنت أسلّم، لمحت بطرف عيني أشخاصًا يلبسون قمصانًا بيضاء، جالسون من خلفي، لكني لما التفت بسرعة، لم أرَ أي أحد، بل وجدتني أمام باب المسجد الذي كان مغلقًا. لقد صليت على التراب. دارت بي الأرض، ولم أدرِ: حلم هذا أم وساوس سَقَرية؟ ليتني أفيق إن كنت نائمًا. وقفت، وقدماي لا تكادان تحملانني. كنت أجد ريحًا طيبة كالمسك تعطر المكان. أحسست ببعض السكينة، وذهب عني بعض الخوف، لكني لازلت في صدمة مما حدث. حملت كيس الأغراض، وطفت حول المسجد، كان له باب واحد مغلق، وأنواره منطفئة.تركت المسجد خلفي واتجهت نحو البيت. لمحت في طريقي مجموعة من الناس كانوا يحملون شيئًا على ظهرهم، كأنهم يحملون نعشًا. هرولت في اتجاههم، فكنت كلما اقتربت منهم، يبتعدون عني أكثر. لم أكن أدري لماذا أجري وراءهم، كأني لم أكن أتحكم في نفسي. كنت أناديهم: السلام عليكم، انتظروا، انتظروا. كانوا جميعًا يلبسون البياض، ويحملون ذلك النعش على أكتافهم. تعبت من الركض وراءهم. فجأة، لم أعد أراهم. أين اختفوا في هذا الظلام؟ عليّ أن أعود إلى البيت. لكن أي طريق سأسلك؟ لقد تهت وسط هذه الجبال. لم أعد أذكر من أين أتيت. أشعلت الكشّاف وأنا أبحث عن الطريق، لكني لا أرى معلمًا غير الأحجار والصخور والظلام المُطبق أينما التفتّ. لم أعد أرى أضواء القرية. لا أدري أين أنا. بدأت أدعو الله أن يرشدني إلى طريق العودة. ثم مشيت بين المسالك الوعرة، لعلي أرى المنزل أو القرية من بعيد.لم أعد أفكر في شيء، أخذت أجري بصعوبة حتى وصلت قمة الجبل، ومنه سأنحدر نحو البيت. وما إن هممت بالمشي حتى سمعت صوت جدتي تناديني: “عبد القادر، يا عبد القادر.” قلت: هذا صوت جدتي! ما الذي جاء بها إلى هنا؟ هل تأخرت إلى درجة أنهم خرجوا ليبحثوا عني؟ قلت لها وأنا لا أراها: جدتي، أنا هنا، أين أنت؟ فقالت لي: “أنا هنا يا ولدي.” كان صوتها قريبًا جدًا. التفتّ، فإذا هي ورائي، ظهرها إليّ، كانت تنظر في اتجاه المسجد. مشيت نحوها، وأنا أقول: “أعتذر، لقد تأخرت في العودة، حدثت معي أشياء غريبة، أين أمي الآن؟ أكيد هي غاضبة مني.” فالتفتت إليّ، وهي تقول: “قد تكون أمك غاضبة منك، لكني أشد منها غضبًا.حين تسللت إلى غرفتي، ألقيت بجسدي على الفراش القاسي، وسرعان ما غبت في نومٍ عميق لم أشعر فيه بشيء. استيقظت على صوت جدتي توقظني قائلة: “انهض يا عبد القادر”. تذكّرت حينها ما سمعته في المسجد الليلة الماضية، ذلك الهمس الغريب الذي وصلني أثناء صلاة الجنازة… جنازة جدتي! لكن كيف؟! إنها كانت توقظني الآن! شيء ما ليس على ما يرام… منذ أيام بدأت ألاحظ تغيرات غريبة في سلوك جدتي. لم تعد هي، لا ملامحها ولا نظراتها ولا حتى كلماتها… وكأن من في البيت ليست جدتي! ربما… ربما ليست هي فعلاً! نهضت فزعًا من فراشي، واتجهت نحو أمي صارخًا: “أمي، أرجوكِ، أكاد أفقد عقلي!” ألقت ما في يدها وجاءت مسرعة تسألني: “ما بك؟” فقلت لها: “المرأة العجوز التي معنا… أشك أنها ليست جدتي!” شهقت أمي وقالت بحدة: “ماذا تقول؟ أتتهم جدتك بأنها جنية؟! ما الذي جرى لعقلك؟!” لكنني تمسّكت بشكوكي، وأعدت عليها تصرفات جدتي الغريبة التي رأيناها جميعًا بالأمس. صمتت أمي، وشعرت أن شيئًا من الشك قد تسلل إلى قلبها. أمسكت بيدي وأدخلتني غرفتي، وقالت لي: “نم… يبدو أن ما رأيته قد أثّر عليك بشدة”. استلقيت على فراشي، ولكن صدرًا يضيق، وكأن أحدًا يطبق عليه. كلما اقتربت من النوم، أيقظني صوتٌ لا أراه، فأصرخ فزعًا. جاءت أمي، وقالت بقلق: “حالتك تزداد سوءًا… هل أستدعي إمام القرية ليقرأ عليك؟” قلت لها: “لا، فقط… اطرقي باب غرفة جدتي وتحققي أنها هناك، أرجوكِ”. ترددت، ثم قالت: “ما هذا الكلام؟ استغفر الله! اذكر ربك حتى تهدأ”. قلت لها: “أقسم أن من كانت بيننا البارحة ليست جدتي! لم تريها تخرج هذا الصباح، أليس كذلك؟ فقط تأكدي أنها لا تزال في غرفتها”. تفكّرت أمي قليلًا، ثم قالت: “لا يمكن أن تخرج دون أن أراها، كنت أنام في البهو المقابل لغرفتها”. وبعد تردد، وافقت وقالت: “لنذهب سويًا، لكن إن أزعجناها فستتحمل أنت العواقب”. ذهبنا معًا، وحين حاولت أمي فتح الباب، وجدته مغلقًا. نظرت إليّ وقالت: “تغلقه من الداخل كالعادة”. قلت: “اطْرقي الباب فقط”. طرقت أمي الباب ونادت: “أمي… أمي!”، ولكن لا رد. قلت: “لن يُفتح، لأنها ببساطة… ليست هنا!” بدا الذهول على وجه أمي، واستمرت في الطرق دون فائدة. قلت: “تنحّي جانبًا”، وركلت الباب بقوة… لم يتحرك. صرخت أمي: “ستفزعها!” فقلت: “حتى مصطفى استيقظ من نومه، لكني أقسم أن جدتي ليست بالداخل”. سألتها: “أين تضع جدتي مفاتيح غرفتها إن خرجت؟” قالت: “في قدر طيني صغير على المنضدة”. أسرعت أمي تبحث… فوجدته هناك. ارتجفت يدها وهي تمسك به، ثم أدارت المفتاح، وفتحت الباب… صرخت فجأة صرخة أفزعتني، ركضت إليها، ودخلت الغرفة. كانت مرتبة، نظيفة، لا أثر لأحد. فقط مصحف جدتي وسجادتها قرب الفراش. قالت أمي بذهول: “مستحيل… لا تخرج دون سبحتها، وقد رأيتها البارحة تدخل وتغلق الباب خلفها! كيف…؟” هرعت أمي تتصل بأبي ليأتي فورًا، وخرجت تبحث عن جدتي، تظن أنها زارت إحدى عجائز القرية، لكن لم يرها أحد. بدأ أهل القرية بالبحث، وقلق الجميع… عدا رجلٌ واحد: العجوز الذي يسكن في البيت المقابل. غريب أمره… لم أره منذ الأمس. شعرت بقوة أن السر يكمن هناك، في ذلك البيت المظلم المريب. أخبرت أمي بشكوكي، لكنها أسكتتني وقالت: “كفّ عن هذا الكلام، أمك ضائعة، ولا نعلم أين هي!” حاولت تهدئتها، وطلبت منها التفكير في ما حدث معي البارحة، وربطه باختفاء جدتي اليوم. رأيت جنية تتقمص هيئة جدتي، وجنّيًا آخر حاول مساعدتي. لكن أمي لم تصدقني. جاءت السلطات، وعمّ الذعر في القرية. بحث الجميع دون جدوى. ذهبت إلى إمام القرية، رويت له كل ما جرى، وكل ما رأيت وشعرت به. لم يصدقني تمامًا، لكنه قال: “بصراحة… أمر هذا العجوز المقابل مشكوك فيه منذ زمن أمره لا يكاد يخرج من البيت إلا ليجلس أمامه يراقب المارة بنظرات حاقدة، ثم جدتك امرأة صالحة ولا نزكيها على الله، لا تفتُر عن الذكر والقرآن وأعمال البر، قد يكون لها مكان عند الجن المسلم، لذلك حاولوا إرشادك، فعلاً قد تكون قد فارقت الحياة. لم أصدم مما قاله الإمام لأني كنت فعلاً أستشعر ذلك، خصوصاً لما سمعت بالأمس من يهمس في أذني عن صلاة الجنازة. ثم قال الإمام: “لكن اعذرني يا بني، قد أتفق معك في كل ما سبق، لكن القانون والعرف يمنعان أن نقتحم الدور دون إذن من السلطات، كيف لنا أن نبحث داخل بيت ذلك الرجل الغريب؟” ثم قلت: “إنه لم يظهر منذ الأمس، يبدو -والله أعلم- أن له علاقة بالعالم السفلي، ويبدو أيضاً أنني البارحة كنت وسط حرب بين الجن المسلم والشياطين، لكن من سيصدق هذا الكلام؟” قلت للإمام: “معك حق، إن كانت أمي -التي تعرف مدى صدقي- ترفض كلامي ولا تُنصت له.” وبعدما حضر والدي تلقيته وقلت له: “لدي ما أخبرك به، فهلا سمعتني؟” قال لي: “يا بني، ليس الوقت مناسباً.” قلت له: “بل أريد أن أخبرك… أين سنجد جدتي؟” حينها قالت أمي لأبي: “لا تسمع قوله، لقد أصابه طائف من الشيطان، فهو يهذي ولا يدري ما يقول منذ الأمس.” فقال لها أبي: “دَعيه، إن كان كلامه سيفيدنا في العثور على جدته، فلِمَ نسكته؟” فأخبرت أبي بما يدور برأسي، فصمت برهة ثم هز رأسه وهو ينظر إليّ، ثم التفت إلى أمي وقال: “إذًا المرأة التي رأيناها بالأمس ليست جدتك، أَكذلك؟” قلت له: “بلى.” وأردف قائلاً: “وأنت تشك أنها في بيت هذا الجار العجوز؟” قلت له: “هو كذلك.” فابتسم كالمستهزئ ولم يُعقّب. قلت له: “لم نجد جدتي في القرية وما حولها، دعنا نذهب لنبحث في ذلك البيت قبل أن يهرب العجوز.” رفض والدي الفكرة وأصر على إتمام البحث والتحري، يقول: “ربما بدأت جدتك تفقد الذاكرة وخرجت، لكنها لم تعرف طريق العودة، ولعلها تائهة الآن في مكانٍ ما في هذه الجبال.” استمر البحث طيلة النهار وجزء من الليل، وفي اليوم الموالي جاء بعض أخوالي، والكل في حيرة ولا يعلمون أين اختفت الجدة، أفي فوق الأرض أم تحتها؟ مرت ثلاثة أيام، أما الحزن في القرية والجميع مشغول بمصير الجدة. في ذلك اليوم تكلم الإمام مع أهل القرية وقال لهم: “أليس من الغريب أن يختفي الرجل العجوز في نفس الليلة التي اختفت فيها الجدة؟ أَيكون له علاقة باختفائها؟ ذلك الرجل الطارئ على القرية لا نعرف أصله ولا فصله، ولم نره يومًا بداخل مسجدنا، وحريٌّ بنا أن نشك فيه.” حين سمعت هذا الكلام علمت أنه إمام ذكي، لم يُخبرهم بما رأيت، فلن يصدقوا على كل حال، ولكنه حاول أن يزرع فيهم الشك والتساؤل ناحيته. في تلك اللحظة، لما كان الإمام يكلم الناس، كنت وأبي حاضرين، فالتفت أبي نحوي وعلم أني من أخبرت الإمام بالأمر. بدأ الناس يتساءلون عن الرجل الغريب، بعضهم قال: “حتى وإن لم يكن له علاقة بالاختفاء، فلِمَ لم يخرج للبحث معنا؟” أخيرًا قرر رجال القرية أن يقصدوا داره، بدأوا في طرق الباب، لا من مجيب، فكسروا الباب الخارجي. دخل أبي ومعه الإمام وشيخ القرية وآخرون، بقيت أنا وأخي مع أمي خارج البيت. فجأة بدأنا نسمع الناس يتحوْقِلون من داخل الدار. خرج والدي مطأطئًا رأسه ومعه إخواني، بعضهم يذرف الدمع. قال أبي لأمي: “إن أردتِ نصيحتي فلا تدخلي، من الأفضل ألا تري، عظّم الله أجرك في والدتك.” بالنسبة لي لم أُصدم مما حدث، لأني كنت شبه متيقن من هذا المشهد الذي أراه أمامي. لقد وجدوا جدتي داخل ذلك البيت، كانت جثة هامدة، أما الرجل الغريب فقد هرب في الليلة السابقة، لم يعثروا عليه داخل الدار. لما رأى الجميع يبحث عن جدته، ولا أحد يعلم لماذا فعل فعلته، إلا أنهم وجدوا داخل البيت كتبًا للسحر، وبعض الأعشاب، والحيوانات المحنطة. لما ساحر أحيا جدتي بتلك الطريقة! كان والدي والكل في صدمة كبرى، عمّ الحزن كل القرية، إنّا لله وإنّا إليه راجعون. لم تتمكن السلطات من اعتقال الفاعل، ولما تواصلوا مع أهل البيت أنكروا أن لهم علاقة به، أي أنه كان يستوطن البيت ويسكنه دون وجه حق. ظل الغموض يكتنف هذه القصة، لكن الأكيد أن الطيبين تنحاز لهم المخلوقات الطيبة، والخبثاء لا يجتمع حولهم إلا كل خبيث، وتستمر الحرب بين الفئتين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. نهاية القصة
إرسال التعليق