تعاون منتظر بين الجن والبشر
بقلم: عبده علي الفهد
تدور أحداث القصة في إحدى مزارع الثروة الحيوانية، حيث يشاهد حارس المزرعة سقوط جسم ملتهب من السماء على أحد عنابر الأبقار، مما أدى إلى تصاعد الدخان ونفوق عدد من المواشي. يتبع ذلك هبوط مركبة فضائية؛ يخرج منها مخلوقات غريبة، يحاولون انتشال حطام الجسم الذي سقط على المزرعة. الحارس يتصل بمالك المزرعة بالحادث، والذي حضر وبدوره أبلغ أجهزة الدولة. تلى ذلك حوار بين الكائنات الغريبة وممثلي أجهزة الدولة. وتتابع الأحداث…
تم عقد اتفاق في نهاية المسار بين الجن والبشر في مجال تقنية التنقل والسفر عبر الفضاء بين الدول.
(حوار بين الحارس ومالك المزرعة)
- لن تتوقف عن قص ذيول الأبقار والخيول؟ إنها بحاجة لشعر ذيولها كي تبعد عنها البعوض والذباب. إن لم تترك هذه العادة، سوف أبحث عن عامل بدلا عنك.
- يا سيدي، إني أصنع منها حبالا متينة. انظر إلى هذا الحبل، فقد نسجته من شعر ذيول الثيران والخيول. واستخدمه في ترويضها وربطها.
- لقد أتيتك بحبال، لماذا لم تستخدمها؟
- يا سيدي، هذه أفضل، فهي لينة ومتينة ولا تؤذيها عند الربط. لكن اطمئن، لن أكرر ذلك، فقد صار لدي كثير منها كما ترى.
- كم عجلا وضعت الأبقار هذا النهار؟
- خمسة؛ منها ثلاثة ذكور.
- اهتم بإرضاعها جيدا. سوف أحضر البيطري غدا لفحصها. هل أعددت اللبن كي أحمله إلى المنزل؟
- نعم، ها هو طازج.
- ضعه في خانة السيارة. طابت ليلتك.
- إلى اللقاء.
(تفكير الحارس)
ذهب مالك المزرعة؛ فحاور العامل ذاته فقال: ها هو ذاهب لعائلته باللبن، سيستقبلونه مسرورين. بينما أبقى هنا وحيدا في هذه المزرعة أعاني الأمرين. لقد نسيت أن أطلب منه زيادة مرتبي، فما يعطيني لم يعد يفي بمتطلباتي. أريد إعانة أسرتي وتوفير ثمن مجوهرات خطيبتي. سوف أفاتحه بالموضوع غدا من يأتي مع البيطري.
إلى اللقاء أيتها البهائم! حان وقت ذهابي إلى سكني! أعدد طعام العشاء… ثم امتد على فراشه كي ينام؛ الجو حار، سوف أخرج لأنام في الهواء الطلق. هذه الأريكة مريحة. يستخدمها أولاد سيدي في كل نزهة. كم هو النظر إلى السماء ممتعا! ها هي بدأت البعوض تزعجني. علي الذهاب لإحضار الناموسية…
ياللهول! يا إلهي! ما هذا؟ إنه نجم سقط على سطح إسطبل المزرعة. لقد خطف بصري. ها هي أصوات الأبقار ترتفع. سأذهب لأرى! علي أن أخبر سيدي أولا! لم أعد قادرا على الإمساك بالهاتف…
(الحديث مع سيد المزرعة)
- الو!
- نعم!
- سقط نجم على الإسطبل لتوة. عليك أن تأتي.
- أنا قادم، اذهب لتطمئن على البهائم!
- سأنتظر قدومك. أنا ارتجف ملهوفا غير قادر على الوقوف.
(وصول سيد المزرعة)
وصل مالك المزرعة على عجل، فقال: ها أنا أتيت. أي إسطبل وقع فيه؟
- رقم 2.
- ما هذا؟ الدخان يخرج من النوافذ. الآنار منطفئة. لعله حريق في الأعلاف. هيا افتح الباب.
- الإسطبل مظلم يعج بالدخان. اذهب، أحضر المصباح.
- ما هذا؟ معظم الأبقار ملقاة. إنها ميتة يا سيدي، لقد نفقت.
- ابحث عن مصدر الحريق!
- ها هو السقف مثقوب، إنه الثقب الذي سقط عليه النجم الملتهب! دعني أقترب… ما هذه الكتلة الملونة…؟ ها هي البقرة جوارها محترقة متفحمة… إنها قمر صناعي! لم يسبق أن شاهدت مثله! لقد أحرق ما وقع عليه، إن الدخان يتصاعد من حولها.
لا تقترب منها يا سيدي، إنها تستعر! ربما يكون صاروخ لم ينفجر.
افتح الصنبور! رش الأبقار بالماء، فبعضها لا تزال حية. ابدأ برش هذا الجسم الغريب.
ها قد انطفأ. أعتقد أنها مركبة فضاء. سوف أذهب لإبلاغ الإطفاء، فقد التقطت بعض الصور. استمر أنت في رش الأبقار بالماء حتى نأتي. دعها تخرج إلى الفناء!
لاعليك يا سيدي، سأبقي البيب في يدي. لقد تلاشى الدخان، ساد الهدوء. سأذهب لأحضر علبة السجائر. أين هي؟… لقد تذكرت أنها في الداخل… دخان الإسطبل خلط رائحة هذه السجائر، سأستمر بشفطها علها تواسيني. ما هذا الذي يهبط في المزرعة؟ أيعقل أن تكون مروحية الإطفاء؟ لكن ليس لها صوت. سأقترب! ينبعث منها ضوء أزرق. لا، هذه ليست مروحية، فلا إطارات لها ولا مروحة على سطحها. ما هذا؟ هيكلها زجاج وعاج، لا غرفة قيادة لها ولا أبراج. كل ما فيها مكشوف، تحوي أربعة مقاعد كأنها صالة استقبال ضيوف…
الوه!
نعم!
هبط جسم غريب في المزرعة يا سيدي؛ يشبه المركبة. إنها ترتجف وترف، وكأنها تستعد للاقلاع.
حاول أن تمنعها من الطيران، نحن قادمون!
كيف لي أن امنعها؟
قيدها بسلسلة إلى عمود أو جذع شجرة.
لقد ربطتها بحبال الأبقار، مثبتة بجذوع الأشجار. لا تتأخروا، أنا في انتظاركم.
ساورت العامل نفسه فقال: سوف أدخل إليها وأجرب الجلوس على مقاعدها؛ إنها مريحة جدًا… ماذا أرى من هؤلاء الذين يخرجون من الاسطبل؟
الوه! سيدي، هناك أربعة خرجوا الآن من الاسطبل، يرتدون بذلات زرقاء، هذه ليست ملابس الإطفاء. لقد عادوا إلى داخل الاسطبل.
نحن على وشك الوصول، لا تقلق.
هاهم وصلوا. هلموا إلى هنا.
هذا جسم غريب، إنه يصدر ذبذبات. وهذه الحبال غريبة أيضًا. هيا قم بتصويرها من جميع الجهات، وقم بإبلاغ غرفة العمليات.
الحبال تابعة للحارس، هو ينسجها من ذيول البهائم والخيول. أما المركبة فهي نادرة. أين من قلت إنهم أربعة أشخاص؟
إنهم داخل الاسطبل الذي سقط داخله الجسم الغريب. اذهبوا لتروا!
لابد من السيطرة على هذه المركبة أولاً.
هاهو رد غرفة العمليات: رصدت الأقمار الصناعية هبوط أجسام غريبة على المنطقة، شوشت جميع الأجهزة، ولازالت.
نحن في انتظار السيطرة على المركبة، فهي تحاول الاقلاع والفرار. وهناك من شاهد مخلوقات غريبة متواجدة مكان سقوط الجسم الملتهب، ولم يعد بمقدورنا أن نقترب. مطلوب دعم وإسناد بفرق مكافحة الإشعاع.
الوه! الوه! هاهو الإرسال انقطع. هاهم خارجون من الاسطبل نحونا، قادمون. إنهم يهمهمون. هل نطلق عليهم النار، أيها القائد؟
كلا! هيا اختفوا حتى يقتربوا. لماذا هم بطيئو الحركة رغم صغرهم ونحول أجسادهم؟ أيها القائد، إن أجسادهم مدرعة وعلى آذانهم هوائيات.
ابق أيها الحارس جالسًا داخل مركبتهم، لنرى رد فعلهم.
انظر أيها القائد: لقد ابتعدوا عن المركبة بعد أن رأوا الحارس داخلها. إنهم يجرون اتصالات مفزوعين. هاهو أحدهم يعود نحو المركبة. هاهو يطلب من الحارس الخروج. إن عيناه تلمع كالجمر. لقد خرج الحارس. هاهو مرتبك، إنه يشير للحارس نحو الحبال. ها هو نطق.
عليك أن تطلق قيود مركبتنا.
من أنتم؟ ومن أين أتيتم؟
نحن فضائيون. سقطت إحدى مراكبنا، فهبطنا لانتشالها.
لكن أنتم اعتديتم على مواشينا، وقد رأيتم حجم الاعتداء وما حل بالأبقار والبناء. لن نطلق صراحكم حتى تقوموا بتعويضنا.
لولا القيود والخيوط التي على ظهرك لنفخناك، وعن الوجود محوناك، لكنك تحصنت بالحبال، فلم تتح لنا مجال. ماذا تريد من تعويض؟
هذه المركبة.
مستحيل! لقد هبطنا لانتشال المحطمة كي لا تقع في أيادي البشر. فكيف نعطيك السليمة؟ الحذر الحذر.
أيها القائد، هل تسمع ماذا يقول هذا المخلوق؟
نعم! تقدموا أيها الجنود، طوقوهم.
هناك مركبة تهبط. هل نطلق النار؟ لقد صعد الثلاثة… هاهي تقلع مسرعة… لقد غادرت…
ها أنا ممسك بالرابع، لفيت الحبل حول خصره. إنه مستسلم…
تشوشت جمع الأجهزة،…لم نعد قادرين على الاتصال مع القيادة والسيطرة.
أيها القائد، هناك عدة مراكب تهبط قرب الاسطبل… إنهم يدخلون الاسطبل… إنهم يخرجون قطعًا ويدخلونها المركبات، حركتهم سريعة.
هيا أطلقوا النار على المراكب، لا تدعوها تقلع…
هذه المراكب لا تتأثر بإطلاق النار. إنها تقلع دون اكتراث. لقد غادرت الأجواء. لقد انتشلوا بعض قطع المركبة المحطمة.
أيها القائد، لقد وصل الرئيس، قم لاستقباله واطلاعه.
هناك مركبة عائدة، لقد هبطت. لقد خرج منها ثلاثة مخلوقات، على أوسطهم شارة. أوقفوا إطلاق النار أيها الجنود!
سمعًا وطاعة أيها الرئيس.
لماذا تقيدون المركبة ووزير دفاعي؟
من أنت؟
أنا رئيس الفضائيين. لقد أتينا مسالمين وليس معتدين.
فلتخاطب رئيسنا، فنحن جنود مأمورون.
فليكن مكان اللقاء هو موقع الاعتداء.
تقابل الفريقان وجرى الحوار التالي:
نعتذر نحن رئيس الفضائيين عن ما بدر وصار.
قبلت نحن رئيس البشر الاعتذار، مقابل جبر الضرر وعدم التكرار.
ماذا تطلبون من تعويض لتكن نفوسكم راضية مرضية؟
نريد التنسيق والتعاون في مجال الرحلات الجوية والأبحاث الفضائية.
اعتبروا حاجتكم مقضية. اختاروا ممثلًا عنكم، وليقم حوار بين المخلوقات الفضائية والبشرية.
نريد ضمانات: وهي أن تبقى المركبة والوزير لدينا طيلة فترة الحوار، ويتم إطلاقهم بعد نجاح الحوار.
لكم ما طلبتم. فليكن ممثلنا لديكم في الحوار وزيرنا.
ومندوبنا نحن البشر هو الحارس الكبير الذي قيد المركبة والوزير.
إلى اللقاء.
إلى اللقاء.
بداء الحوار
في مزرعة الابقار
مندوب البشر: كل ما أطلبه هو التقيد بقوانين البشر النافذة والقواعد والاعراف التي تحكم العلاقات الدولية، من منافذ ومطارات وقنصليات وسفارات وبعثات دبلوماسية، وجوازات سفر وهجرة وإقامة وعمل، كون مخالفات تلك القواعد تؤدي إلى خلل.
مندوب الجان: سوف ينحصر تعاوننا في الفضاء، لن يتعدى ذلك المسار إلى البر أو البحار.
مندوب البشر: أريد توضيحًا لماهية تعاونكم، وهل سيكون ذلك في الطريق الصحيح؟
مندوب الجان: أجساد البشر جزيئات، ولدينا أجهزة تقوم بتحليلها، ومن ثم إرسالها عبر الفضاء، كما أن لدينا أجهزة تقوم باستقبالها وإعادتها إلى حالتها الأولى. فالأجساد تتبعثر في الهواء مثلها مثل الماء، إذا بُخر الماء أصبح أكسجين وهيدروجين في الهواء لا يرى، ومتى عاد تعادلهما، عاد إلى أصله ماء.
هناك جهاز تحليل الأجسام إلى جزيئات لا ترى، تنتشر عبر الذبذبات في الهواء، كما أن هناك جهاز استقبال يعيد تركيب الجزيئات المرسلة عبر الموجات، فتخرج منه أجسام كما كانت تمامًا بتمام، وكأنه دخل من باب وخرج من باب، في غضون دقائق وثوان… فإجراءات السفر لا تتغير؛ يقدم طالب السفر بياناته فتدرج، وعند استيفائه الشروط يتم إدخاله جهاز الإرسال. وعند وصوله جهاز الاستقبال، تكون بياناته من هوية وجواز قد طبعت وجهزت، كما يتم تصويره من كل زواياه وقياس رقم لبسه ونوعه…. جهاز الإرسال هو عبارة عن عدد كبير من الأدراج مرقمة تشبه إلى حد بعيد أدراج ثلاجات الموتى في عالمكم، وعند اقتراب موعد السفر يتم إدخال المسافرين داخل الأدراج بعد إتمام إجراءات سفرهم. تقابلها أدراج مماثلة مرقمة بنفس الأرقام في جهاز الاستقبال.
مندوب البشر: هناك بعض التساؤلات: إذا انقطع الاستقبال كيف سيكون الحال؟ هل سيظل المسافرون مبعثرين في الفضاء عالقين؟
مندوب الجان: سوف نجري التجارب ونقدم الضمانات. وعليكم تحري الدقة عند إدخال البيانات، سنعمل طبقًا لبياناتكم، وعليكم تحمل تبعات أخطائكم.
مندوب البشر: ما المقابل الذي ستطلبونه مقابل خدمتكم هذه؟
مندوب الجان: أن تتوقفوا عن إرسال أجهزتكم ومسابيركم إلى القمر. فكلما تصدينا لكم في هذا المجال، تعاودون الإرسال.
مندوب البشر: سننقل ما توصلنا إليه إلى رؤسائنا ليبدوا الملاحظات والتصديق.
مندوب الجان: إذا في هذا المكان نلتقي! والآن اسمح لي بالاقلاع بمركبتي. فك عنها هذه الحبال الملعونة.
مندوب البشر: وكيف نضمن عودتك؟
مندوب الجان: سوف نترك لديكم حطام المركبة المحطمة. فكن على ثقة.
تمت التجربة بنجاح وسيرت عدة رحلات عبر محطات في المطارات، كل رحلة تضم ألف مسافر بالترقيم. أطلق على هذا الجهاز “السفر عبر الأثير”.
بعد عدة رحلات، ظهرت هناك عقبات: أحد المسافرين عبر الأثير كان وزيرًا؛ تم استقباله في المطار وأجري معه هذا الحوار:
تسمح حضرة الوزير في هذا اللقاء القصير أن تخبرنا بشكل محدد عن أهداف زيارتك؟ وما هي رسالتك التي تنقلها من حكومة بلدك إلى حكومة هذا البلد؟
الوزير: (تخطى الصحفي ومر، تبعه الصحفي؛ استوقفه في منتصف الممر؛ فأعاد عليه سؤاله مصرا على تلقي إجابة). رد: هناك اشتباه؛ أنا لست وزيرًا.
أليس هذا اسمك؟ وهذه صورتك؟
كلا!
خذ هذه مرآة!
نظر إلى المرآة…فقال: غير معقول! هذا ليس وجهي. وما أرتديه ليس ملابسي. ولا هذه الشارة المعلقة على صدري شاراتي وما عليها ليس اسمي.
إذا من تكون؟ في الأول والآخر؟
أنا عامل سافرت أبحث عن عمل لا أقل ولا أكثر. ممكن تدلني؛ كيف لي أن أستعيد وجهي وثيابي؟
هذا لا يعنيني عد إلى موظف الاستقبال؛ يمكن أن يعطيك إجابة على هذا السؤال.
عاد المسافر على الفور إلى محطة الاستقبال. سأل موظف الاستقبال: ما هذا الحال الذي أنا عليه؛ أنا لست أنا؟
كم هو رقمك في رحلة الأثير؟
رقم 18.
رقم 81 هو الرقم الذي يتداخل مع رقم 18، لذلك محتمل أن يكون رقم 81 هو من لديه وجهك وثيابك وبطاقتك. وقد سبقك فغادر المطار.
أين أجده؟
سينزل في فندق… شارع… غرفة رقم…
انطلق العامل مسرعًا على متن سيارة أجرة، في الاستعلامات عثر على اسمه مدونًا في سجل النزلاء، وليس اسم الوزير. صعد فقرع باب الغرفة؛ فتح الباب فعرف وجهه وبذلته.
فقال الوزير: شكرًا لقدومك؛ أعطني وجهي وبذلتي وشارتي؛ كي أتمكن من تمثيل بلدي.
بل هات بطاقتي ووجهي على عجل كي أتمكن من البحث عن عمل؟
والعمل؛ لم يبق على موعد انعقاد المؤتمر سوى ساعات. ما العمل! لابد من إيجاد حل؟
أرى أن تعطيني شارتي وبطاقتي والبذلة، وأعطيك بطاقتك وبذلتك.
لن أتنازل عن وجهي، كيف سأقابل أهلي؟
إذا سنحضر المؤتمر معًا، أنت ستكون الوزير بالوجه والبذلة والشارة. بينما أنا المرافق، سنلف عنقك بشاش جراح، فتظهر عجزك عن الكلام فأتولى أنا الشرح والإيضاح. بهذا نكون قد تخطينا عقبة، وما تبقى نتدبر أمره.
ماذا علي أن أفعل؟
تلتزم الصمت التام، وإن وجه إليك كلام، أسرع نحوي بالالتفات مشيرًا إلي باحد السبابات.
انتهى أعمال المؤتمر وصرفت شيكات بدل سفر استلمها العامل. في الفندق حدث عراك بالأيدي بين الوزير والعامل؛ إثر جدال حصل.
فقال الوزير: الحل أن نرحل عبر الأثير دون تأخير. فإعادة الإرسال والاستقبال هو الكفيل بمعالجة الخلل.
لن أعود فقد أتيت للبحث عن عمل.
بل عليك العودة!
بل سأبقى باسمك وصورتك هنا في الغربة، ثم نصلح الخلل عند العودة.
لكن وضعي مختلف: كيف سأعود لأهلي وعملي بصورة غير صورتي؟
لا شأن لي بذلك فحالي أشد من حالك، خسرت كل ما أملك من أجل الحصول على جواز السفر كي أحصل على دخل أوفر، لدي أسرة كبيرة أعولها. بماذا سأعود؟
سوف أمنحك وظيفة مرموقة.
بعد ضمانات وافق العامل على العودة. سافرا عبر جهاز الإرسال حسب النظام، وطُلب من جهاز الاستقبال عكس الأرقام. تمت العملية، كلا أعيد إلى أصله، وحصل العامل على وظيفة في بلده.
مسافر آخر كانت عائلته تنتظره في المطار. بمجرد أن شاهدوه؛ هبوا للسلام عليه بقي واقفًا؛ لم ينطق بكلام ولم يرد السلام. أمسكت زوجته بذراعه، فأمعنت النظر في وجهه، فقالت: أباكم مرهق من عناء السفر، إنه غير قادر على الكلام، هيا اركبوا السيارة في البيت نتكلم بعد أن ينام ويأكل الطعام.
أدخلوه البيت؛ بدأ ينظر ببحلقة في صورة معلقة على الجدار، فجأة وقف أمام المرأة؛ فنطق بلغة غير مفهومة، وكفيه يلوحان كأنهما مساحتا زجاج سيارة. التف الجميع حوله، ناظرين إلى فمه، منصتين لقوله. لا أحد استطاع أن يفهمه! تساءلوا فيما بينهم: ماذا جرى؟ هل غربة سنتان غيرت لغته؟ كلما ناداه أحد أبنائه قائلاً: أبي! حرك رأسه كإشارة يستدل منها على نفيه.
اصطحبوه إلى مترجم؛ فتبين أنه دكتور في طب جراحة العيون. ذهبوا به إلى المستشفى، أجرى مقابلة مع هيئة الأطباء، فأعلن المستشفى عن وصول بروفيسور في زرع عدسات العيون. توافد المرضى، أجرى عددًا من العمليات بنجاح منقطع النظير. احتار الجميع بأمره، فهو لا يحمل أي شيء من شكله سوى عقله.
بينما رب الأسرة وصل المطار، لم يجد أحدًا بانتظاره، فركب سيارة أجرة. وعند وصوله منزله، طرق الباب. فتح أحد أولاده، هم الأب باحتضان ابنه، فابتعد الابن عنه قائلاً: من أنت أيها الغريب؟
أنا أباك، ماذا دهاك؟ أنت غلطان. فأغلق الباب بوجهه.
شاهد أحد جيرانه، فناداه باسمه. رد عليه بعد أن حياه: من أنت أيها الضيف الكريم؟
أنا فلان، معقول نسيتني؟ نظر إليه الجار باستغراب، ثم تقدم وطرق الباب. فخرجت أم الأولاد، فقال: انظري إلى هذا الرجل الغريب يقول إنه زوجك؟ نظرت إليه، فقالت: لعلك غلطان. ثم كشفت عن وجهها، فقالت: هاه، هل اقتنعت أني لست زوجتك؟ فتبسم وقال: ماذا جرى لك يا فلانه بنت فلان يا أم أولادي فلان وفلان وفلانة؟ غضبت فأغلقت الباب.
إلا أنه ظل يطرق الباب. فخرجت مع الأولاد حاملين صورة حائطية لأبيهم. فقال: الآن فهمت؛ تريدون أن تحتفلوا بقدومي برفع صورتي!
ردوا بصوت عالٍ: هذه صورة أبانا، فمن أنت؟
تبسم فقال: نعم هي صورتي، ربما الغربة غيرت ملامحي. نظر الأولاد إلى أمهم باستغراب، فقالت: انتظروا سأعود إليكم. دخلت ثم عادت وبيدها مرآة. فقالت: انظر في المرآة إلى وجهك لترى الفرق. هل هذا الأكحل صاحب الجبين الأزهر يشبه صورتك الصفراء ذات العيون الزرقاء؟
بهت فقال: هذا ليس وجهي، أنتم على حق. لكن أنا هو أنا، إنما الوجه غير وجهي. لو لم أكن أنا ما كان لي أن آتي؟
قالت: هيا يا أولاد، أغلقوا الباب، إنه مجنون. قال أحد الأولاد: دعوني أسأله قبل أن يذهب؛ من أخبرك بأسمائنا؟ لم يرد عليها. فأغلقت الباب. وقف محتارًا، فلم يتعرف عليه لا صاحب ولا جار. فقرر العودة نحو المطار.
لماذا لم أبرز لهم بطاقتي وجواز سفري؟ كيف غاب ذلك عني؟ سأعاود.
قرع الباب.
نعم أنت من جديد! ماذا تريد؟
انظري هذه بطاقتي عليها اسمي، وهذا جواز سفري.
تعالوا يا أولاد، ها هو المجنون عاد.
هذه بطاقة أبي وجواز سفره عليهما صورته واسمه. أين أبانا؟ ماذا جرى له؟ لن ندعك تغادر لن تفلت منا حتى تخبرنا! هيا إلى المطار، قد يكون أبانا هناك في الانتظار، ربما تلخبط الوثائق. هذا إذا لم تكن أنت سارقًا!
لمح من خلال الباب إعلانًا يعرض على شاشة التلفاز في صالون الانتظار، فقال: انظروا صورتي تعرض على الشاشة؛ دعوني أدخل لآرى؛ إن كنت أنا هو؟ سمح له بالدخول…دخلوا غرفة استقبال المستشفى، سألوا عن طبيب العيون المُلصقة صورته على اليافطات.
رد السكرتير: إنه في غرفة العمليات، سوف يخرج بعد لحظات. تفضلوا بالجلوس لانتظاره، من منكم يطلب الكشف عليه كي أدون اسمه حتى يحين دوره؟
رد: ليس فينا مريض، إنما هناك سوء تفاهم حدث، أتينا لإيضاحه!
فجأة خرج الدكتور، فصاح بلغة غير مفهومة، ثم تقدم وأمسك بقميصه، فقبض هو الآخر بكرافته بقوة قائلاً: عليك أن تعيد لي وجهي! نشب شجار وحدث تزاحم، تم التحفظ عليهما حتى حضر مترجم. تبين من خلال جوازيهما أنهما سافرا عبر الأثير، وعليهما الذهاب إلى جهازي الإرسال والاستقبال لإصلاح ما حدث من خلل في الصور والأشكال.
أُعيد شحنهم من جديد وتسفيرهم عبر جهاز الإرسال إلى البلد القادمين منه، بعد أن اتضح خلط في الأرقام بين رقمي 806 و809. وبعد عكس الأرقام في جهاز الاستقبال، أعيد لكل منهما وجهه وشكله، وقد احتملت الشركة نفقات السفر ذهابًا وعودة.
أحد الرحلات انطلقت بألف راكب، بعد انطلاقها بدقائق، تلقت محطة الإرسال اتصالاً يفيد بحدوث خلل في محطة الاستقبال بسبب أمطار وعواصف رعدية أخرجت المحطة عن الجاهزية. فلبثت جزيئات الألف راكب مبعثرة في الفضاء، عالقة بين النجوم والكواكب.
بعد أربع وعشرين ساعة، تم إعادة تشغيل محطة الاستقبال، إلا أنه لم يصلها أي جزء من أجساد ركاب الرحلة. فلم يعد بالإمكان تفادي ما حصل. أعلن مندوب البشر توقف رحلات السفر عبر الأثير، بعد أن أصبح يشوبها خطر كبير. فتعهد مندوب الجان بإيجاد حل يمكن جهاز الإرسال من استعادة جزيئات الأجسام المرسلة في أي لحظة تعطلت فيها أجهزة الاستقبال.
فأُعطاه مندوب البشر مهلة لتنفيذ ما قاله. حتى الآن لم تنته المهلة، وما زالت الرحلات عبر الأثير متوقفة، بانتظار أن يفي مندوب الجان بتعهده الذي قطعه على نفسه.
إرسال التعليق