جاري التحميل الآن

 أغرب 10 أماكن مسكونة بالجن في السعودية

لم أكن من أولئك الذين يؤمنون بالأساطير، كنت أراها مجرد قصص منسوجة من خيال الأجداد لتملأ لياليهم الطويلة. لكن شيئًا ما تغير في داخلي عندما وصلتني تلك الرسالة الغامضة، كتبها رجل لم أعرف هويته، ولم أرَ وجهه قط. كانت الكلمات قليلة لكنها ثقيلة كالرصاص: “إذا كنت تبحث عن الحقيقة، فوجهتك وادي البيضاء. استعد، فما ستراه ليس لضعاف القلوب.”

أمسكت الورقة المجعدة بين يدي، أقلبها مرات ومرات، وكأنني أحاول فك شيفرة مخبأة بين السطور. كلماته كانت بسيطة، لكنها حملت نبرة تحذير جعلت قلبي يخفق بشكل غير مألوف. وادي البيضاء، أو “وادي الجن” كما يسميه أهل المنطقة في همساتهم الخافتة، كان مكانًا يُحكى عنه الكثير. قصص عن أصوات غريبة تملأ الوادي ليلًا، وأضواء تتراقص بين الصخور دون مصدر واضح، وأحيانًا ظلال تتحرك بسرعة لا تُفسر. هل هي مجرد حكايات لإثارة الرعب؟ أم أن هناك شيئًا حقيقيًا يختبئ في ذلك الوادي النائي؟

قررت أن أذهب. لم أكن أعرف ما الذي ينتظرني، لكن الفضول كان أقوى من خوفي. جهزت حقيبتي بأدوات بسيطة: مصباح يدوي، كاميرا، وزجاجة ماء. في تلك الليلة، وتحت ضوء القمر الباهت، انطلقت نحو وادي البيضاء. الطريق كان وعرًا، يمر عبر تلال صخرية وسهول جرداء، وكلما اقتربت، شعرت بثقل غريب في الهواء، وكأن الوادي نفسه يراقبني.

عندما وصلت إلى مدخل الوادي، كان الصمت يعم المكان، صمت لم أختبر مثله من قبل. لا ريح، لا أصوات حيوانات، فقط هدوء مخيف يقطعه صوت أنفاسي. تقدمت بحذر، مصباحي يرسم دائرة ضوء ضعيفة على الأرض الصخرية. فجأة، سمعت همسًا خافتًا، كأنه يأتي من بعيد، لكنه كان واضحًا بما يكفي ليجعلني أتوقف. كلمات غير مفهومة، كأنها لغة لم أسمعها من قبل، تنساب بين الصخور. التفت حولي، لكن لا أحد هناك. فقط الظلال الطويلة التي بدت وكأنها تتحرك بمحض إرادتها.

ثم رأيته… ضوء خافت يومض في الأفق، يظهر ويختفي كإشارة من عالم آخر. قلبي كاد يتوقف، لكن قدميّ تحركتا نحوهما كأن شيئًا يسحبني. عندما اقتربت، وجدت نفسي أمام كهف صغير، مدخله ضيق ومظلم، ينبعث منه هواء بارد يحمل رائحة التراب القديم. وقفت مترددًا، أفكر: هل أدخل؟ هل هذه هي الحقيقة التي دعاني ذلك الغريب لأكتشفها؟ وفي تلك اللحظة، سمعت صوتًا جديدًا، أشبه بأنين عميق يخرج من أعماق الكهف، ينادي باسمي…


قادني الطريق عبر صحراء ممتدة بلا نهاية، الرمال تمتد يمينًا ويسارًا، والسماء تتصبغ بلون ذهبي مع غروب الشمس. الهواء كان ساكنًا، وكأن العالم بأسره ينتظر شيئًا أن يحدث. كلما اقتربت من الوادي، كان إحساس داخلي يزداد ثقلًا، وكأن الأرض نفسها تراقبني. عند مدخل الوادي، لاحظت أن الطريق بدا وكأنه يتحدى قوانين الطبيعة: السيارات التي يوقفها أصحابها في وضع الحياد تتحرك وحدها صعودًا. ابتسمت بسخرية، محاولًا إقناع نفسي أنها مجرد خدعة بصرية كما يقولون، لكن الفضول دفعني لتجربة الأمر بنفسي. أوقفت سيارتي، وضعت ناقل الحركة في وضع الحياد، ورفعت قدمي عن الدواسة. ببطء، بدأت السيارة تتحرك إلى الأمام صعودًا. في البداية شعرت بالدهشة، ثم بالانقباض. كان الصمت يلف المكان حتى أن أنفاسي بدت عالية وسط السكون. حين نظرت في المرآة الخلفية، رأيت ظلًا طويلًا يمتد على الطريق خلفي، لم يكن ظلًا طبيعيًا، بل كان أشبه بضباب أسود كثيف يتحرك ضد اتجاه الريح.


ازداد اقترابه شيئًا فشيئًا، حتى بدأت أسمع همسًا غريبًا، لم يكن يشبه أي لغة أعرفها. حاولت تشغيل المحرك، لكنه صمت تمامًا. ضغطت على المفتاح مرارًا بلا جدوى. في تلك اللحظة، أحسست ببرودة حادة تلامس رقبتي، كما لو أن شيئًا يقف خلفي مباشرة. لم أجرؤ على الالتفات، كان إحساسي يخبرني أن ما يقف هناك ليس إنسانًا. ازدادت الهمسات وضوحًا، حتى بدأت أسمع كلمات مبعثرة، اسمي يتكرر بصوت أجش وكأنه يخرج من أعماق الأرض. ارتجف جسدي، وأدركت أنني على وشك فقدان السيطرة على نفسي. فجأة، انقطع الصوت، وعاد السكون، لكن الظلام كان قد بدأ يبتلع الوادي رغم أن الشمس لم تغب بعد. تلاشت معالم الطريق أمام عيني، وشعرت وكأنني أسقط في فراغ بلا نهاية.
وعندما فتحت عيني من جديد، وجدت نفسي على جانب الطريق، وسيارتي تقف على بعد أمتار قليلة. اقتربت منها ببطء، وعندما وصلت، لاحظت شيئًا جعل الدم يتجمد في عروقي: على الزجاج الأمامي، كانت هناك آثار أصابع طويلة نحيلة، مبللة بسائل أسود لزج. لم أستطع لمسها، فقط حدقت فيها وأنا أتنفس بصعوبة. علمت في تلك اللحظة أن ما حدث لم يكن خدعة بصرية، كان شيئًا حقيقيًا، شيئًا يتربص بي. وربما كان ذلك مجرد تحذير، لكن التحذير جاء متأخرًا، لأن تلك الليلة كانت البداية فقط.
فالخيط الذي بدأت أتبعه في وادي الجن كان يقودني إلى مكان آخر، إلى مبنى مهجور في قلب الرياض يطلق عليه الناس اسم مستشفى عرقة، حيث تقول الحكايات إن الظلال هناك لا تتركك حتى بعد مغادرتك. لم أكن قد استوعبت تمامًا ما جرى في وادي الجن، لكن شيئًا ما بداخلي كان يدفعني إلى المضي قدمًا. كانت قوى خفية تسحبني من مكان إلى آخر، من لغز إلى لغز. في الأيام التالية، بدأ اسم “مستشفى عرقة” يتكرر على مسامعي من أشخاص مختلفين بطرق غريبة، وكأنهم يختبرون ردة فعلي. في إحدى الليالي، كنت أجلس في مقهى صغير على أطراف الرياض، حين اقترب مني رجل مسن لم أره من قبل وجلس دون أن يستأذن. لم ينظر إلى عيني مباشرة، بل ظل يحدق في فنجان قهوته، ثم قال بصوت خافت: “إذا كنت تبحث عن الحقيقة، فاذهب إلى المستشفى قبل

الفجر، لكن احذر، بعض الأبواب إذا فتحتها لا يمكن إغلاقها مرة أخرى.”
كلماته ظلت تطن في أذني طوال الليل، حتى وجدت نفسي عند بوابة المستشفى المهجور في الساعة الثالثة صباحًا. المبنى بدا ككتلة سوداء ضخمة تتحدى القمر، نوافذه المظلمة أشبه بعيون ميتة تحدق في الداخل والخارج معًا. دفعت الباب الحديدي ببطء، فأصدر صريرًا حادًا اخترق صمت المكان. رائحة العفن والرطوبة كانت ثقيلة، ممزوجة بشيء آخر، رائحة صدأ وشيء يشبه الدم القديم. الأرضية كانت مغطاة بالغبار، لكن ما أثار قلقي هو وجود آثار أقدام حديثة تمتد إلى الممر الرئيسي. مشيت بخطوات حذرة، أسمع صدى أقدامي يتردد عبر الجدران المتهاوية. في كل غرفة مررت بها، كان هناك شيء غير مريح: سرير صدئ مقلوب، ستارة ممزقة تتحرك رغم أن الهواء ساكن، أو كرسي طبي يتأرجح ببطء وكأن أحدًا كان جالسًا عليه قبل لحظات.
حين وصلت إلى نهاية الممر، وجدت المصعد القديم مفتوحًا على مصراعيه، وداخله ظلام كثيف. كانت أزراره مغطاة بطبقة من الغبار، لكن أحد الأزرار كان نظيفًا تمامًا: زر الطابق السفلي. شعرت بنبض قلبي يتسارع، لكن الفضول دفعني للضغط عليه. هبط المصعد ببطء شديد، وكأن الزمن نفسه يتباطأ معي. حين فتح الباب، وجدت نفسي في ممر ضيق مضاء بمصابيح ضعيفة تتوهج وتخفت بشكل متقطع. الجدران هنا كانت ملطخة ببقع غامقة، بعضها على شكل كفوف بشرية لكن أطرافها طويلة بشكل غير طبيعي. وفي منتصف الممر، رأيت سريرًا طبيًا مغطى بملاءة بيضاء قديمة. توقفت وأصغيت، كان هناك صوت خافت يأتي من تحته، كأن شخصًا يهمس أو يتنفس بصعوبة. اقتربت خطوة ثم أخرى، فجأة ارتفعت الملاءة ببطء من أحد الأطراف دون أن تلمسها يد بشرية، وكأن شيئًا غير مرئي يزيحها عن جسد ممد تحتها. لمحت ما يشبه وجهًا بلا ملامح واضحة، لكنه كان يلتفت نحوي.
في اللحظة التالية، انطلقت صرخة حادة، وتدحرج السرير بسرعة جنونية نحو الجدار واصطدم به بقوة، ثم انقلب على جانبه. ارتجفت أطرافي وتراجعت خطوة إلى الوراء، لكن قبل أن أتمكن من التحرك أكثر، ظهرت ظلال سوداء عند نهاية الممر. كانت تقف متراصة، بلا وجوه، بلا أعين، وكأنها جدار حي من العتمة. لم تتحرك، لكنها كانت تملأ المكان بإحساس خانق. بدأت الأرضية تحت قدمي تهتز، والمصابيح تتقافز ضوءًا وظلامًا. سمعت خطوات سريعة خلفي، كأن شيئًا يركض نحوي، لكن حين التفت لم أرَ شيئًا. ركضت نحو المصعد، وضغطت الأزرار بجنون حتى انغلق الباب أخيرًا وصعد بي إلى الطابق الأرضي.
عندما خرجت، كان الفجر يوشك على البزوغ. وقفت عند المدخل أتنفس بعمق، لكن قبل أن أرحل، رفعت رأسي نحو الطابق العلوي. هناك، في نافذة محطمة، كان يقف وجه شاحب يبتسم ابتسامة باردة لا تشبه أي ابتسامة بشرية، ثم اختفى كما لو كان يتبخر في الهواء. تركت المكان وأنا أعلم أن ما رأيته لم يكن مجرد أوهام، بل جزء من شبكة أكبر من الأسرار، شبكة تلتف حول أماكن متعددة في هذه البلاد.
الوجهة التالية على القائمة كانت مدينة حائل، التي يسمونها عاصمة الجن. بعد خروجي من مستشفى عرقة، لم يعد بإمكاني التراجع. كنت أشعر أنني أقترب أكثر فأكثر من مركز دوامة لا أستطيع الخروج منها. كل طريق أسلكه يقودني إلى طريق آخر، وكأن قوة ما ترسم لي الخريطة. والآن، كان الدور على مدينة حائل. لم أكن قد زرتها من قبل، لكن ما سمعته عنها جعلها حاضرة في ذهني منذ سنوات. هناك، بين الجبال والسهول، يقال إن الجن يعيشون بين الناس، يراقبونهم بصمت، وربما يتدخلون أحيانًا لتغيير مجرى حياة شخص ما. حتى بعض أهل حائل يروون قصصًا عن أصوات تُسمع ليلًا من الجبال، وأضواء تتحرك في أماكن لا تصلها قدم بشر.
وصلت إلى المدينة عند الغروب، والسماء تكتسي بلون أرجواني عميق. كان الهواء هناك مختلفًا، وكأن نسماته تحمل شيئًا من السر. استقبلني شاب في العشرينات من عمره، قال إنه سمع عني من صديق لصديق، وأنه يعرف مكانًا يجب أن أراه. كان يتحدث بثقة، لكن في عينيه ظل قلق لم ينجح في إخفائه. قادني بسيارته إلى ضاحية قديمة

على أطراف المدينة، حيث البيوت متباعدة والشوارع شبه خالية. أوقف السيارة أمام منزل كبير على شكل سفينة، جدرانه مطلية بلون باهت، وشرفاته متهاوية. كانت واجهته مميزة لدرجة يصعب نسيانها، لكن ما جعلني أشعر بالانقباض هو أن النوافذ، رغم أنها مظلمة، بدت وكأنها تحدق بي مباشرة.
قال الشاب: “هذا هو منزل السفينة، لا أحد يجرؤ على العيش فيه، كل من حاول لم يخرج سالمًا.” دخلنا عبر البوابة الحديدية التي أصدرت صريرًا طويلًا، وتقدمنا نحو الباب الخشبي الضخم. حين دفعته، انفتح بسهولة غير متوقعة، وكأن المكان ينتظرنا. رائحة الرطوبة والغبار ملأت أنفي، لكن كان هناك أيضًا رائحة أخرى، أشبه برائحة خشب محترق منذ زمن بعيد. تجولنا في الطابق الأرضي، وكانت الجدران مليئة بالشروخ التي تشكلت في أنماط غريبة، بعضها يشبه وجوهًا تتكون في صمت. في إحدى الغرف، كانت هناك ساعة حائطية قديمة متوقفة، لكن عقاربها بدأت تتحرك فجأة ببطء رغم أنها كانت مغطاة بالغبار.
سمعنا صوت خطوات خفيفة في الطابق العلوي، كأن أحدًا يسير حافي القدمين فوق الخشب. نظرنا إلى بعضنا، ثم بدأنا نصعد الدرج. كان الخشب يئن تحت أقدامنا، وكل خطوة تقربنا من مصدر الصوت. حين وصلنا إلى الممر العلوي، لاحظت أن الأبواب جميعها مغلقة إلا بابًا واحدًا في نهايته، كان نصف مفتوح. اندفع هواء بارد من خلاله، وكأن الغرفة خلفه تحمل شتاءً صغيرًا خاصًا بها. دفعنا الباب ببطء، فرأينا غرفة واسعة تتوسطها نافذة كبيرة تطل على الشارع، لكن الغريب أن الشارع كان خاليًا تمامًا، رغم أننا كنا نسمع قبل قليل أصوات سيارات

من بعيد، وكأننا انتقلنا فجأة إلى مكان آخر، نسخة ميتة من العالم الخارجي.
في الزاوية، كانت هناك خزانة قديمة. اقتربت منها، وعندما فتحت الباب، وجدت بداخلها ممرًا ضيقًا مظلمًا يمتد إلى مكان لا أستطيع رؤية نهايته. بدأ همس منخفض يخرج منه، أصوات متعددة تتكلم في وقت واحد بلغات مختلفة، بعضها مألوف وبعضها أشبه بالزحف على الأذن. تراجعت، لكن فجأة انطفأ كل شيء، الظلام ابتلع الغرفة، ولم أعد أرى الشاب الذي جاء معي. صرخت باسمه، لكن الصوت ارتد إلي بلهجة مشوهة، وكأن أحدًا يسخر مني. حين عاد الضوء، كنت واقفًا في الطابق الأرضي وحدي، والباب الأمامي مفتوح على مصراعيه. خرجت إلى الشارع، لكن المنزل خلفي لم يكن على شكل سفينة بعد الآن، كان مجرد أرض خالية تتناثر فيها بقايا جدران مهدمة. شعرت بقشعريرة تسحف على ظهري، وأدركت أن المكان لم يخرجني حقًا، بل طردني. ومع ذلك، كان إحساسي يخبرني أنني لم أغادره بالكامل، هناك جزء مني ما زال عالقًا في تلك الخزانة يستمع إلى الهمسات.
الوجهة التالية كانت شرق البلاد، إلى الأحساء، حيث تنتشر قصص عن بيت غامض شهد اختفاء عائلات كاملة. كانت رحلتي إلى الأحساء مختلفة عن كل ما سبقها، لم أذهب بدافع الفضول فقط، بل بدافع شعور غامض يزداد ثقلًا في صدري منذ ليلة منزل السفينة. كان الإحساس يرافقني طوال الطريق، وكأن أحدًا يراقبني من المقعد الخلفي للسيارة رغم أنني كنت وحدي. وصلت مع غروب الشمس، أشجار النخيل كانت تمتد بلا نهاية، وظلالها الطويلة على الأرض بدت كأذرع ممدودة نحو الأفق. التقيت هناك برجل في منتصف العمر اسمه سالم، كان قد سمع من أحد معارفي عن رحلتي هذه، وأصر على أن يريني شيئًا لن أنساه ما حييت.
قادني سالم إلى أطراف المدينة، حيث تقف مجموعة من البيوت القديمة شبه المنسية. توقف أمام منزل متشقق الجدران، بابه الخشبي متدليًا على مفصل واحد. قال بصوت منخفض: “هنا كانت تسكن عائلة كاملة، الأب، الأم، وثلاثة أطفال. في ليلة واحدة، اختفوا جميعًا، لا صراخ، لا آثار كسر، لا دماء، وكأن البيت ابتلعهم.” دخلنا بخطوات حذرة، كانت الأرضية مغطاة بطبقة كثيفة من الغبار، لكن الغريب أنني وجدت آثار أقدام صغيرة لطفل، أو ربما أكثر، تتجه نحو الداخل. لم تكن هناك أي آثار تعود للخارج. رائحة العفن والرطوبة كانت ثقيلة، لكن خلفها كان هناك عبير غريب يشبه رائحة بخور قديم.
في الصالة، لاحظت شيئًا عجيبًا: مائدة طعام ما زالت كما هي، أطباق نصف ممتلئة، وكأن الأسرة نهضت فجأة من العشاء ولم تعد أبدًا. حتى كأس الماء أمام المقاعد كانت ما تزال تحتوي على قطرات، كأنها لم تجف رغم مرور السنوات. صعدنا إلى الطابق العلوي، الغرف كانت متشابهة، لكن إحداها جذبتني بقوة. الباب كان مفتوحًا على آخره، والداخل مظلم. حين خطوت إلى الداخل، شعرت بهواء بارد يلفح وجهي، لكن الأغرب أنني سمعت صوت ضحكات أطفال قادمة من كل مكان. لم تكن ضحكات مرحة، بل كانت متقطعة، كأنها تتلاشى وتعود. في زاوية الغرفة، وجدت خزانة صغيرة، وبجانبها لعبة دب قماشية قديمة، إحدى عينيها مفقودة. التقطتها، وفجأة سمعت خطوات سريعة خلفي. التفت بسرعة، لكن الغرفة كانت فارغة

.
أشرت لسالم أن نغادر، لكن قبل أن نصل إلى الدرج، بدأ البيت كله يصدر أصوات طقطقة، وكأن الخشب يتنفس. الجدران بدت كأنها تقترب منا، والظلال على الجدران صارت تتحرك عكس اتجاه الضوء. حين وصلنا إلى الطابق الأرضي، كان الباب الذي دخلنا منه قد اختفى تمامًا. في مكانه جدار صلب بلا أي أثر للخشب أو المخرج. ساد الصمت، ثم بدأ همس خافت يملأ الأرجاء، أصوات متعددة تتكلم بكلمات غير مفهومة، لكنها كانت قريبة جدًا من أذني. سالم كان يلهث وعيناه تتسعان برعب. فجأة، سمعنا طلقات قوية تأتي من الطابق العلوي، ثم صوت خطوات بطيئة تنزل على الدرج. لم أرَ شيئًا، لكن إحساسي كان يخبرني أن ما ينزل ليس إنسانًا.
لم أكن أعرف ماذا أفعل، لكنني أمسكت بسالم وسحبته إلى أحد الجدران الجانبية. هناك، وسط الغبار، لاحظت فجوة صغيرة أسفل الجدار. حفرنا حولها بأيدينا حتى صارت واسعة بما يكفي للزحف. خرجنا إلى الخارج ونحن نتنفس بصعوبة، وأقسم أنني حين التفت إلى الخلف، رأيت ظل خمسة أشخاص يقفون عند النافذة يراقبوننا بصمت. كانت أطوالهم متفاوتة: رجل، امرأة، وثلاثة أطفال. ابتعدنا عن المكان بأقصى سرعة، لكن إحساسي لم يتركني. البيت لم يبتلع تلك العائلة فقط

بل حاول أن يبتلعنا نحن أيضًا. كانت وجهتي التالية جنوبًا إلى جبال جازان، حيث يقف جبل يُسمونه جبل الجن، مكان تتقاطع فيه الأساطير مع الحقائق المرعبة. الطريق إلى جازان كان طويلًا ومتعرجًا، يمر عبر تضاريس تتغير من سهول خضراء إلى جبال وعرة. شعرت أنني أقترب من قلب الأسطورة، من مكان لم تُكتب قصته بالكامل بعد. سمعت الكثير عن جبل الجن، لكن أكثر ما أثار فضولي أن بعض أهل جازان يرفضون حتى ذكر اسمه ليلًا، وكأن النطق به يفتح بابًا لا يمكن إغلاقه. وصلت إلى سفح الجبل في ساعة متأخرة من الليل، والقمر مكتمل يسكب ضوءًا فضيًا على الصخور التي بدت كوجوه غريبة تراقبني بصمت. كان الهواء مختلفًا، أثقل من المعتاد، وكأن كل نفس أستنشقه يقتطع شيئًا من قوتي. استقبلني شيخ مسن يُدعى حمد، يعيش في قرية صغيرة عند سفح الجبل. قال لي بصوت خافت: “إن كنت تبحث عن الحقيقة، فلا تتوقع أن تعود بها كاملة. الجبل يعطيك ما يريد هو، لا ما تريد أنت.” روى لي أن أصوات طبول تُسمع أحيانًا من أعماق الجبل، خاصة في الليالي المقمرة، وأن من يجرؤ على الاقتراب كثيرًا يرى أضواء تتحرك بين الصخور، أضواء ليست من مصابيح ولا من نار. صعدت مع حمد جزءًا من الطريق، والظلام يزداد كلما ابتعدنا عن القرية. لم يكن هناك سوى صوت خطواتنا، حتى بدأنا نسمع همسات متقطعة تأتي من اتجاهات مختلفة. كانت الهَمسات تتغير نبرتها كل لحظة، مرة تشبه كلام البشر، ومرة تتحول إلى أصوات حيوانات، وأحيانًا إلى صفير طويل يقطع أوتار أعصابي. في منتصف الطريق، توقف حمد فجأة وأشار إلى بقعة مظلمة بين الصخور، قائلًا إن هناك مدخلًا لمغارة لا يراها إلا

من سمح له الجبل بذلك. اقتربنا، وبالفعل رأيت فجوة ضيقة بالكاد تكفي لدخول شخص واحد. الهواء الخارج منها كان أبرد بكثير من الجو الخارجي، ورائحته مزيج بين التراب المبتل ورائحة احتراق قديم. دخلنا، وكانت الجدران الداخلية للمغارة ملساء بطريقة غريبة، وكأنها صُنعت بيد الطبيعة. بعد بضع خطوات، رأينا شيئًا جعلني أرتجف: رسوم غريبة على الجدران، وجوه مشوهة بعيون واسعة وفم مفتوح، وأجساد نصفها بشري ونصفها يشبه الحيوانات. فجأة، انطفأ مصباح حمد، وبقيت أضواء خافتة تتحرك على الجدران، كأنها مشاعل بعيدة رغم أننا في عمق المغارة. عادت الهَمسات، لكنها هذه المرة كانت أوضح، تقول كلمات بلغة لم أفهمها، لكنها كانت تنغرس في ذهني كالإبر. أمسكني حمد من ذراعي وقال: “يكفي، إن واصلنا لن نخرج.” لكن قبل أن نغادر، سمعت صوت خطوات قادمة من الداخل، خطوات بطيئة وثقيلة يرافقها صوت جر شيء معدني على الأرض. لم ننتظر لنعرف مصدر الصوت، خرجنا مسرعين، لكن حين نظرنا خلفنا، كان مدخل المغارة قد اختفى تمامًا، وكأن الجبل ابتلعها. عند سفح الجبل، وقفت أستجمع أنفاسي بينما كان القمر يختبئ خلف الغيوم. أدركت أن جبل الجن ليس مجرد أسطورة، بل كيان حي يقرر من يدخل ومن يخرج.
رحلتي التالية كانت إلى الدمام، حيث تنتشر حكايات عن أصوات وأحداث غامضة في أحياء سكنية مأهولة، لا في أماكن مهجورة فقط. كانت الدمام مختلفة عن كل المدن التي زرتها في رحلتي. هنا، الحكايات لا تدور حول أماكن مهجورة أو جبال نائية، بل عن أحياء حديثة ومنازل يعيش فيها الناس حتى اليوم. الفارق الوحيد هو أن سكان هذه البيوت تعلموا كيف يتجاهلون ما يسمعونه ليلًا حتى لا يختل عقلهم. بدأت القصة حين وصلتني رسالة من امرأة تُدعى ليلى، قصيرة ومباشرة: “بيتنا في حي هادئ، لكنه لا ينام أبدًا. إذا أردت أن تسمع بنفسك، تعال الليلة.” وصلت إلى منزلها في ساعة متأخرة، الشارع كان هادئًا بشكل يثير الريبة، لا صوت سيارات، لا ضحكات أطفال، فقط صمت ثقيل. حين فتحت لي الباب، بدت ليلى شاحبة الوجه وعيناها مليئتان بالسهر. أدخلتني بسرعة وأغلقت الباب خلفي، كما لو كانت تحمي البيت من شيء في الخارج، أو العكس. جلست في الصالة، وكان كل

شيء يبدو عاديًا حتى سمعت أول صوت، أشبه بخطوات خفيفة في الطابق العلوي، خطوات طفل حافي القدمين. التفت إلى ليلى، لكنها لم تبدُ متفاجئة، بل قالت ببرود: “سيبدأون بعد قليل، اصبر.” لم تمضِ دقائق حتى بدأ صوت آخر، هذه المرة من المطبخ، كأن شخصًا يفتح ويغلق الأدراج بعنف. نهضت لأتفقد الأمر، لكن المطبخ كان فارغًا وكل الأدراج مغلقة بإحكام. جلست مرة أخرى محاولًا إخفاء ارتباكي، لكن الأصوات بدأت تتكاثر: ضحكات قصيرة تأتي من الممر، همسات بالقرب من أذني، وصوت أنفاس ثقيلة خلف أريكة الصالة. لم أرَ شيئًا، لكن إحساسي كان يخبرني أننا لسنا وحدنا. قالت ليلى إن هذه الأصوات بدأت قبل ثلاث سنوات، بعد أن عاد زوجها من رحلة عمل طويلة. في الليلة الأولى بعد عودته، سمعا معًا طرقًا متواصلاً على جدار غرفة النوم. وعندما طرق زوجها الجدار من الداخل، جاء الرد فورًا من الجانب الآخر، رغم أن الجدار كان خارجيًا ويطل على الشارع مباشرة. الأغرب، كما روت، أنهم حين فتحوا النوافذ ليتأكدوا من الخارج، وجدوا الشارع فارغًا، لكن الطرق لم يتوقف، بل صار أقرب وأكثر حدة. أثناء حديثنا، سمعنا فجأة صوتًا قادمًا من الطابق العلوي، هذه المرة كان صوت شخص ينادي باسمي بوضوح، بصوت رجل أجش. تجمدت في مكاني، فأنا لم أخبر أحدًا

 هنا باسمي سوى ليلى. صعدت ببطء إلى الأعلى وليلى خلفي. عند منتصف السلم، شعرت بهواء بارد يهبط نحوي، ورأيت باب إحدى الغرف يفتح وحده ببطء، كاشفًا عن ظلام دامس. دخلت الغرفة فلم أجد شيئًا سوى نافذة مفتوحة تطل على الحديقة الخلفية. لكن قبل أن أغادر، التقطت أذني صوت همس خافت جدًا قادم من الزاوية، كلمات غير مفهومة تتكرر بسرعة، وكأنها تراتيل. شعرت بوخز حاد في رقبتي، كأن أحدًا يضع إصبعه الجليدي على جلدي. التفت بسرعة، لكن لم يكن هناك أحد. حين نزلنا إلى الطابق السفلي، كان التلفاز قد اشتغل وحده، يعرض قناة بلا إشارة، وصوت التشويش يملأ المكان. على الشاشة، وسط الضباب الأبيض والأسود، ظهرت ظلال تتحرك، لم تكن صورًا واضحة، لكنها كانت أقرب إلى أشكال بشرية تتحرك ببطء نحو الشاشة. أغلقت ليلى التلفاز بسرعة وجلست على الأرض وهي تهمس: “إنهم يعرفون أنك هنا الآن، لن يتركوك بسهولة.” خرجت من المنزل بعد منتصف الليل، لكنني لاحظت شيئًا جعل قلبي يسقط في صدري. على نافذة السيارة، كان هناك بخار على شكل كف بشرية صغيرة، وكأن طفلًا كان يراقبني من الداخل. علمت أن رحلتي لم تنتهِ بعد، وأن الوجهة القادمة ستكون في شمال السعودية، حيث تنتشر قصص عن قلاع قديمة وأماكن لم تطأها أقدام البشر منذ قرون، وبالتحديد قلعة تيماء. كانت تيماء بالنسبة لي أشبه ببوابة زمنية، مكان لا يكتفي بأن يحكي لك التاريخ، بل يجعلك تراه وتسمعه وتشمه في كل ذرة تراب. تقع القلعة في قلب الصحراء، شامخة بجدرانها الحجرية العتيقة، كأنها تحرس سرًا لا يريد أن يكشف. وصلت إليها قبل المغيب بقليل، والسماء تلونت بدرجات برتقالية وحمراء جعلت المكان يبدو وكأنه مشهد من حلم قديم. رياح دافئة حملت معها رائحة الرمال القديمة

 وأصوات نقر خافتة تشبه وقع الحصى تحت أقدام غائبين. التقيت هناك بمرشد محلي يُدعى ناصر، رجل خمسيني نحيل الجسد، عيناه مليئتان بالحكايات التي لم يروها بعد. قال لي فور أن صافحني: “هنا الحراس لا ينامون، لكنهم ليسوا من لحم ودم.” دخلنا من البوابة الرئيسية، وكانت الحجارة الضخمة التي بُنيت منها القلعة تلمع تحت ضوء الشمس الأخيرة. الغرف الداخلية كانت شبه فارغة، إلا من بقايا أوانٍ فخارية وقطع خشب متآكل، لكن الجو كان يحمل شيئًا لا يُرى، إحساسًا بالترقب، وكأن الجدران تراقب خطواتك. بينما كنا نسير في الممر الطويل المؤدي إلى البرج الشرقي، توقف ناصر فجأة، وأشار بإصبعه نحو نهاية الممر، حيث بدا ظل طويل يعبر ببطء، مع أنه لم يكن هناك أحد غيرنا. قال ناصر بصوت خافت: “ستسمعهم بعد قليل، لا تجبهم أبدًا.” وبالفعل، بدأنا نسمع أصواتًا تأتي من أعلى البرج، أصوات رجال يتحدثون بلغة عربية قديمة تتخللها كلمات لم أفهمها. كانت الأصوات تتقاطع مع وقع أقدام ثقيلة، وأحيانًا طرق معدني حاد، وكأن سيوفًا تضرب الدروع. حين صعدنا الدرج الحلزوني المؤدي للبرج، لاحظت أن الهواء أصبح أبرد بكثير، لدرجة أن أنفاسي بدأت تتشكل كسحب بيضاء أمامي. في الأعلى، وجدنا قاعة واسعة، في وسطها طاولة حجرية مغطاة بطبقة سميكة من الغبار، وعلى سطحها آثار خدوش عميقة، كأن شيئًا حادًا حفرها. في تلك اللحظة، شعرت بهزة خفيفة تحت قدمي، ثم دوى صوت من العدم، عميق وقوي، كأنه أمر عسكري صادر قبل قرون، تبعته صرخات حماسية وخطوات راكضة في كل الاتجاهات. لم أرَ أحدًا، لكنني أقسم أنني شعرت بكتف أحدهم يلامسني أثناء مروره. أمسكني ناصر من ذراعي بقوة وقال: “انظر هناك.” تتبعت إصبعه، فرأيت عند النافذة المقوسة ظل رجل يرتدي خوذة معدنية ودرعًا، يقف بلا حراك يراقب الأفق. لم أستطع رؤية وجهه، لكنني كنت متأكدًا من أنه كان يعرف أننا هنا. قررنا النزول فورًا، لكن الطريق للخروج بدا أطول بكثير مما كان عند دخولنا، وكأن القلعة تمددت. كل بضع خطوات، كانت الأصوات تعود من جديد، أحيانًا قريبة جدًا. وجهتي التالية كانت إلى نجران، حيث تنتشر حكاية عن بيت العظم، منزل مهجور يُقال إنه بُني فوق أرض ملعونة، وإن من يدخله يسمع أصوات سكانه الأوائل، رغم أنهم ماتوا منذ زمن بعيد. نجران، أرض التاريخ والقصص التي تتداخل فيها الأسطورة بالحقيقة. في ضواحيها، بعيدًا عن البيوت المأهولة، يقف بناء مهجور يعرفه السكان باسم بيت العظم. الاسم وحده كفيل بأن يثير فضولك أو خوفك، لكن عندما سمعت الحكايات التي تدور حوله، أدركت أن ما يخفيه أعمق بكثير من مجرد بيت قديم. وصلت إلى هناك عند الظهيرة، والشمس في ذروتها. من الخارج، بدا البيت كأي منزل طيني قديم، جدرانه بلون الصحراء ونوافذه مربعة صغيرة، لكن كلما اقتربت، لاحظت أن الجدران تحمل شقوقًا طويلة، وكأنها جروح غائرة في جسد حجري. الأغرب أن الطين في بعض المواضع كان داكن اللون، كما لو أن شيئًا تسلل داخله وغيّر طبيعته. رافقني شاب محلي يُدعى عوض، كان يعرف المكان جيدًا لكنه لم يدخله من قبل. قال لي: “الناس هنا يتجنبون هذا البيت منذ أكثر من خمسين سنة. آخر من دخله كان راعيًا

 يبحث عن ماعزه، وخرج بعد يومين، لكن ليس كما كان. أصبح صامتًا، عيونه فارغة، وكأنه ترك روحه في الداخل.” دخلنا من الباب الخشبي المائل، رائحة قديمة، مزيج بين العفن والتراب الرطب، هاجمت أنوفنا فورًا. كان هناك ممر طويل يؤدي إلى ساحة داخلية، وعلى جانبيه غرف متقابلة. الأرض مغطاة بطبقة سميكة من الغبار، لكن وسط الغبار كانت هناك آثار أقدام جديدة. وقف عوض مرتبكًا وقال: “لا يمكن، لم يدخل أحد هنا منذ أشهر.” من إحدى الغرف، جاء صوت خافت يشبه حفيف ثوب يُجر على الأرض. اقتربنا بحذر، لكن حين دخلنا الغرفة وجدناها فارغة تمامًا، إلا من سرير خشبي مكسور وصندوق صغير. عندما فتحته، وجدت بداخله عظامًا بشرية صغيرة، ربما لطفل. فجأة، أُغلق الباب خلفنا بقوة، وكأن قوة غير مرئية دفعته. غمر الظلام الغرفة، رغم أن الشمس كانت لا تزال ساطعة في الخارج. ثم بدأنا نسمع أصواتًا، همسات متداخلة، بعضها قريب جدًا من أذاننا، وبعضها يأتي من كل زوايا الغرفة في الوقت نفسه. بدا عوض يتراجع إلى الخلف، لكنني كنت مشدودًا نحو زاوية معينة. هناك، في الظل، رأيت شكلًا بشريًا صغيرًا يجلس القرفصاء، رأسه مائل وعيناه تلمعان بضوء أبيض بارد. لم يتحرك، لكنه كان يبتسم ابتسامة بطيئة غير طبيعية. عندما خطوت نحوه،

اختفى الشكل فجأة، وظهر صوته في أذني: “لقد تأخرت، البيت ينتظر منذ زمن.” خرجنا من الغرفة بخطوات سريعة، لكن كلما انتقلنا من ممر إلى آخر، كان البيت يبدو وكأنه يتغير. الغرف تختفي وأخرى تظهر، الممرات تطول، والأبواب تفتح على أماكن لم نرها قبل لحظات. في إحدى الزوايا، وجدنا درجًا ينزل إلى قبو. الهواء هناك كان أثقل والظلام أشد كثافة. على الجدران، كانت هناك كتابات قديمة محفورة بأدوات حادة، بعضها بالعربية القديمة وبعضها برموز لم أرها من قبل. من أعماق القبو، جاء صوت أنين طويل، كأن أحدًا يتألم منذ مئات السنين. عندما وصلنا إلى أسفل الدرج، وجدنا قاعة واسعة تتوسطها مائدة حجرية كبيرة، وعليها صفوف من الجماجم البشرية، كل جمجمة عليها نقش غريب. وقبل أن نقترب أكثر، سمعنا وقع أقدام خلفنا. التفتنا لنجد ثلاثة أشكال بشرية طويلة القامة، ملامحها مطموسة، لكنها تتحرك بخطوات ثابتة نحونا. لم نتردد، ركضنا نحو الدرج، وسمعنا أصواتهم تلاحقنا، أصوات تشبه كسر العظام تحت الأقدام. عندما خرجنا من البيت، كان الهواء في الخارج منعشًا والشمس ما زالت مشرقة، لكن شيئًا ما كان مختلفًا. شعرت بثقل على كتفي، كما لو أن أحدًا يقف خلفي. قال عوض وهو يلهث: “كل من يدخل هذا البيت لا يخرج وحده، دائمًا يخرج ومعه شيء لا يراه، لكنه يبقى معه إلى آخر يوم في حياته.” غادرت نجران في اليوم التالي، لكنني لم أعد كما كنت. في كل مكان أذهب إليه، أشعر أن البيت لم يتركني، وأن كل تلك الرحلات التي خططتها لم تكن سوى طريق طويل يقودني…

منصة تفتح بوابات التجربة... حيث تُهمس الأرواح للعقول، ويذوب العلم في طيف الإيمان، ويتوارى الظاهر خلف ستار الخفي. هنا، لا نكتفي بالرؤية بل نُبصر، ونغوص بلا خريطة في عوالم لا تُرى... نسترق السمع لأسرار لم تُكتب، ونلتمس أثر الجن، وشطحات الأحلام، ونبضات الطاقات، ولغة الرموز التي لا يفك شيفرتها إلا من دخل الكهف مختارًا

إرسال التعليق

You May Have Missed

error: