بقلم:سامر ابراهيم
في ليلة باردة ومعتمة، قاد عادل سيارته عبر طريق ريفي مهجور بعيدًا عن المدن المأهولة. وبينما كان يتأمل في الظلام من حوله، بدأت أضواء سيارته تضعف فجأة، فقرر التوقف عند أقرب محطة وقود رآها في الأفق. كانت المحطة قديمة ومتهالكة وتقع في منطقة منعزلة بلا وجود لأي سيارات أخرى أو إشارات تدل على الحياة فيها. دخل عادل إلى المحطة باحثًا عن عامل أو موظف، لكن المكان كان مهجورًا تمامًا والظلام يسود أرجاءه. صمت مرعب خيم على المحطة ولم يكن يسمع سوى صوت الرياح وهي تعوي. قرر العودة إلى سيارته لكن فجأة لمح ظلًا يتحرك خلف إحدى المضخات. نادى عادل بصوت مرتجف: “هل هناك أحد؟” لم يكن هناك رد، فقط صوت الرياح الخافت. ثم فجأة أضاءت أضواء المحطة بنفسها، مضيئة الساحة بأكملها. لكنه حين نظر حوله، رأى مشهدًا مرعبًا: أشخاص بأجساد متآكلة ووجوه فارغة يقفون بلا حراك حول المضخات ينظرون إليه بنظرات جاحظة.
حاول الهرب لكن باب السيارة كان مغلقًا بإحكام، وبدأت أصوات غريبة تتعالى من داخل المحطة. انتبه إلى أن واحدًا من هؤلاء الكائنات الباهتة يقترب ببطء، كأنه يزحف عبر الأرض ويمد يده نحوه بشكل مرعب. فجأة انقطعت الأضواء مرة أخرى وعادت المحطة إلى الظلام التام. بينما كان يحاول تشغيل سيارته مجددًا، شعر بشيء يطرق زجاج النافذة بجانبه. التفت ليجد وجهًا شاحبًا يحمل تعابير ميتة يحدق فيه من الخارج وهمس له بصوت مخيف: “لماذا أتيت هنا؟ هذا المكان ليس للعيش”. وبصعوبة نجح عادل في تشغيل السيارة وانطلق مبتعدًا عن المحطة بأقصى سرعة.
عندما نظر إلى الخلف، لم تكن هناك أي محطة، فقط الظلام والصمت. بينما كان عادل يبتعد عن المحطة بسرعة، شعر بارتعاش في يديه وصعوبة في التنفس، كأن شيئًا ثقيلًا جثم على صدره. بدأ ينظر حوله بتوتر محاولًا طرد الأفكار المريعة التي تلاحقه، لكنه لاحظ أمرًا غريبًا: الأضواء الخلفية للسيارة كانت تومض بشكل متقطع، كأن هناك شيء يعطلها أو ربما شخص ما. فجأة، سمع صوتًا خافتًا من المقاعد الخلفية يشبه الهمسات التي لا تكاد تسمع. كانت الكلمات مبهمة لكن المعنى كان واضحًا: كان هناك صوت يكرر: “لم يكن يجب أن تأتي، لم يكن يجب أن تأتي”.
تسارعت نبضات قلبه وهو يلتفت ببطء إلى الخلف. هناك في الظلام، كان هناك ظل جالس في المقعد الخلفي، وجهه لا يظهر بوضوح لكن عيناه كانت تتوهج بوهج غريب. قبل أن يتمكن عادل من الصراخ، اندفعت اليد الشاحبة التي رآها سابقًا إلى مقدمة السيارة محاولًا الإمساك بعنقه، كأنها تنتقم منه لمحاولته الفرار. وبينما يحاول عادل الإفلات، شعر فجأة بأن السيارة توقفت عن العمل، ووجد نفسه محاصرًا في وسط الطريق المعتم بلا وسيلة للهرب. كانت الأصوات تزداد من حوله، أصوات الصراخ والضحك المتداخل مع أنفاس ثقيلة، وكأنه كان يحيط به جمع من الأرواح الغاضبة.
بدأ الظل في المقعد الخلفي يتحرك ببطء نحو عادل وهمس بصوت غريب ومشوّش: “كل من مر من هنا لم ينجُ، وأنت لن تكون الاستثناء”. أدرك عادل أنه بحاجة للخروج من السيارة، لكن الأبواب كانت مقفلة بإحكام. في لحظة يأس، تذكر ولاعته في جيبه، فمد يده المرتجفة وأشعلها. فاشتعل نور خافت في ظلام المقصورة، وبمجرد أن أضاءت الولاعة، اختفت تلك الأرواح والظلال من حوله، تركت عادل وحيدًا. وبينما كان يحاول التقاط أنفاسه، لاحظ شيئًا غريبًا: كان هناك ورقة صغيرة على مقعد الراكب الأمامي، لم تكن هناك من قبل. حملها بيده وقرأ المكتوب عليها: “البداية كانت هنا والنهاية ستكون قريبة جدًا”.
عادل شعر بأن الرعب لم ينتهِ بعد. في إحدى ليالي الشتاء الباردة، كانت ريم تقود سيارتها عائدة من رحلة عمل طويلة. الطريق كان شبه خالٍ والسكون يعم المكان، باستثناء صوت الرياح العاصفة التي تهب على زجاج السيارة. شعرت ريم بالإرهاق الشديد وبدأت تشعر بالقلق من أن تقطع المسافة المتبقية دون أن ينفد وقودها. بعد قليل، لمحت من بعيد أضواء محطة وقود قديمة مهجورة، فقررت التوقف هناك لتعبئة خزان الوقود واستعادة القليل من نشاطها. كانت المحطة تبدو غريبة بلا أي إضاءة واضحة سوى مصباح واحد واهن فوق مدخل المتجر. لم يكن هناك أي علامة على وجود موظف أو زبائن آخرين. بعد لحظات من التردد، قررت ريم الخروج من السيارة. نزلت وهي تحاول إقناع نفسها بأن الأمر لا يتجاوز مجرد محطة قديمة مهجورة ولا داعي للخوف. اقتربت من المضخة لكنها لم تعمل، فقررت دخول المتجر الصغير في المحطة للبحث عن أحد.
دخلت المتجر ووجدت داخله كومة من الغبار تغطي الرفوف وعلب طعام منتهية الصلاحية وأرضية تملؤها آثار أقدام غير واضحة المعالم. الجو كان باردًا بشكل لا يصدق، كأن المتجر تجمد بمرور الزمن. وبينما كانت تتفقد المكان، سمعت فجأة صوت خطوات بطيئة تصدر من عمق المتجر. بدأ قلبها ينبض بسرعة وتراجعت للخلف ببطء، ثم فجأة انقطعت الإضاءة تمامًا وعم الظلام المكان. تمالكت نفسها وأخرجت هاتفها لتستخدم إضاءته ككشاف صغير. لمحت ظلًا يتحرك في نهاية الممر، كان يبدو كشخص واقف بلا حراك، لكنه كان ينظر إليها بنظرة لا توصف، نظرة فارغة تمامًا وخالية من أي حياة. بينما تحاول فهم ما يجري، اقترب الظل ببطء وعندها رأت أن وجهه كان شاحبًا وجاحد العينين، كأنه كان ميتًا.
منذ زمن، لم تتمكن من التحرك وكانت قدميها قد التصقت بالأرض من شدة الرعب. فجأة، نطق الكائن بصوت أجوف وبطيء: “ما كان يجب أن تقتربي من هنا، أنتِ مثل الباقين.” صرخت ريما محاولة الخروج من المتجر، لكن الباب لم يفتح وكان هناك شيء يمنعها من الهرب. بدأت تبحث عن أي مخرج، وفي تلك اللحظة لاحظت بابًا صغيرًا في الجهة الخلفية من المتجر. ركضت نحوه، فتحت الباب ووجدت نفسها في ممر ضيق ومظلم يمتد إلى الوراء. لم يكن لديها خيار آخر، فقررت السير فيه على أمل أن يقودها إلى خارج المحطة.
مع كل خطوة كانت تخطوها، كانت تسمع أصواتًا غريبة، كأنما خطوات تتبعها وهمسات لا تفهم كلماتها وضحكات مكتومة. الممر كان يبدو بلا نهاية، وبكل خطوة كانت تشعر وكأن الظلام يبتلعها ببطء. عند إحدى الزوايا، رأت ضوءًا خافتًا يشع من غرفة صغيرة في نهاية الممر، فركضت نحوها بكل قوتها. عندما وصلت إلى الغرفة، كانت المفاجأة تنتظرها. كان في الداخل مجموعة من الصور القديمة المغمورة على الجدران، صور لأشخاص مختلفين. ورغم غموض الصور، تمكنت من التعرف على أحد الوجوه. كان ذلك الوجه يعود إلى صديق قديم اختفى قبل سنوات في ظروف غامضة.
دهشت وارتعشت، تذكرت كيف كانوا قد بحثوا عنه طويلاً دون أثر، لكن هنا كان وجهه يحدق بها من الصورة بعيون خاوية. فجأة سمعت صوتًا خلفها يقول: “لقد انضم إلينا لأنه لم يستطع الهرب، مثلك تمامًا.” التفتت ببطء لتجد نفس الظل الذي رأته من قبل يقف عند الباب، لكن هذه المرة كان أقرب وأشد وضوحًا، ولم تكن لديه ملامح وجه واضحة، فقط عينان تلمعان في الظلام. حاولت الهرب من الغرفة لكنها فقدت توازنها وسقطت على الأرض. وفي تلك اللحظة شعرت بيدين باردتين تمسكان بها، وبدأ الظل يسحبها ببطء نحو الظلام. سمعت همسات تقول: “ستكونين جزءًا منا إلى الأبد، لن يغادر أحد هذا المكان.”
استيقظت ريم فجأة لتجد نفسها على جانب الطريق بسيارتها. بدا الأمر وكأنه حلم، لكنها شعرت ببرودة شديدة وكأن ما عاشته كان حقيقيًا. نظرت إلى الخلف ولم ترَ أي محطة وقود، بل طريق فارغ يعمه السكون. وعندما بدأت تقود لاحظت شيئًا عجيبًا: كانت هناك صورة قديمة على المقعد بجانبها، صورة لصديقها المختفي، لكن بجانبه كانت صورتها هي بوجه شاحب وعينين فارغتين. ريم تجمدت في مكانها عندما رأت صورتها بجانب صورة صديقها المختفي، لم تصدق ما ترى. كيف يمكن أن تكون صورتها موجودة وبتلك النظرة الباردة الشاحبة؟
قلبها ينبض بعنف والغموض يلتف حولها مثل دوامة مظلمة. حاولت أن تهدأ وتفكر فيما يجب أن تفعله، لكنها لم تستطع التخلص من الشعور بأن هناك شيئًا خطيرًا يتربص بها. قادت السيارة بسرعة محمومة ورأسها يضج بالأسئلة. وبينما كانت تتجه نحو المدينة، شعرت بوجود شيء ثقيل على كتفها. كان أحدهم يجلس في المقعد الخلفي. لم تكن تجرؤ على الالتفات، لكن شعورًا غريبًا تملكها وكأن الهواء من حولها أصبح باردًا وجامدًا. في لحظة شجاعة، التفتت ببطء، وعندها رأت ظلًا باهتًا يشبه صديقها المختفي جالسًا بهدوء يحدق بها بابتسامة غريبة. قال بصوت شاحب وبعيد: “ظننت أنك قد تهربين، لكنك الآن جزء منا إلى الأبد.”
شعرت ريم برعب يتسلل إلى أعماقها ولم تستطع التفكير بوضوح. أوقفت السيارة على جانب الطريق وحاولت الهرب، لكنها شعرت بتجمد قدميها وكأنما ربطتا بالأرض. الظل اقترب منها، وكان وجهه يتحول ببطء ليصبح وجهها هي نفسها بنظرة خاوية وابتسامة باردة مخيفة. في اللحظة الأخيرة، صرخت ريم بأعلى صوتها قبل أن يختفي كل شيء من حولها. عندما فتحت عينيها، وجدت نفسها تقف في نفس المحطة القديمة، وحدها تمامًا. لم يكن هناك سيارة ولا طريق ولا حتى ضوء بعيد، فقط المحطة والظلام الشامل. نظرت حولها فرأت صورًا على الجدران تحتوي على صور لأشخاص كثيرين، من بينهم صديقها. لكنها أدركت أمرًا مرعبًا: كانت صورتها الجديدة تتوسطهم بنظرة ميتة خالية من الحياة.
منذ تلك الليلة، اختفت ريم ولم يسمع عنها أحد أبدًا. لكن السكان المحليين قالوا إنهم أحيانًا يرون ظلالًا وأصواتًا غامضة في تلك المحطة المهجورة، وإن إحدى الصور دائمًا ما تتغير، تظهر فتاة بوجه شاحب وعينين فارغتين تبتسم بنظرة خالية من الحياة وكأنها تنتظر ضحية أخرى تعبر طريقها. في إحدى ليالي الشتاء الباردة، كان سامر يقود سيارته عبر طريق جبلي مهجور بعد يوم طويل من السفر. كان سامر يشعر بالتعب الشديد وقرر التوقف عند أول محطة وقود يصادفها لملء الخزان وأخذ قسط من الراحة.
وبينما كان يسير ببطء في الطريق، لمح من بعيد أضواء محطة وقود تبدو قديمة، لكن لا يزال هناك بصيص نور ينبعث منها. عندما دخل إلى المحطة، لاحظ شيئًا غريبًا: لم يكن هناك أي أثر للعاملين أو الزبائن، فقط سكون مطبق وأصوات الرياح. قرر النزول ليتفحص المكان. وعلى الرغم من شعوره بعدم الارتياح، توجه نحو المضخة وبدأ بتعبئة الوقود. لكن أثناء انتظاره، شعر بنظرات ثقيلة تتابعه، وكأن أحدهم يراقبه من بعيد. التفت سامر فلم يجد شيئًا سوى الظلام المحيط بالمكان وبعض الأشجار المتناثرة هنا وهناك. حاول إقناع نفسه بأن ما يشعر به مجرد تهيؤات نتيجة الإرهاق. لكنه في تلك اللحظة لاحظ ضوءًا خافتًا في زاوية المحطة ينبعث من نافذة صغيرة في المتجر المهجور المتصل بالمحطة.
فضوله دفعه للتوجه نحو النافذة، وعندما اقترب منها، رأى في الداخل مشهدًا غير طبيعي: كان هناك مجموعة من الأشخاص يجلسون حول طاولة في الظلام وجميعهم ينظرون إلى الباب، كما لو كانوا بانتظار دخول أحدهم. كانت تعابير وجوههم غير طبيعية، جامدة كأنهم دمى. شعر سامر برعشة باردة تجتاح جسده وقرر العودة إلى سيارته سريعًا. لكن في اللحظة التي ابتعد فيها عن النافذة، سمع صوت الباب يفتح خلفه ببطء وصوت خطوات تقترب. ارتجف قلبه، لكنه استجمع شجاعته والتفت ليرى من يقف خلفه. كانت المفاجأة عندما رأى شابًا يرتدي زي عامل محطة الوقود، لكن بشرته كانت شاحبة وعيناه غارقتين في السواد.
قال له بصوت خافت ومخيف: “هل تحتاج مساعدة؟” لم يكن في الصوت أي حياة، وكأنه قادم من مكان بعيد. حاول سامر تمالك أعصابه ورد عليه قائلًا: “فقط أردت ملء خزان الوقود، سأغادر فورًا.” لكن العامل اقترب منه ببطء وقال: “لم يغادر أحد هذه المحطة من قبل، منذ أن توقفت كل السيارات هنا.” ثم أشار نحو السيارات المتناثرة التي لم يلحظها سامر من قبل. كانت هناك سيارات قديمة مغطاة بالغبار والصدأ، يبدو أنها مهجورة منذ عقود. شعر سامر بالذعر وحاول الركض نحو سيارته، لكنه شعر بأن قدميه ثقيلتان وكأنما تجذبهما الأرض.
فجأة، تردد صوت همسات من جميع الجهات، وكان المكان قد امتلأ بالأرواح المحبوسة. أحد الأصوات همس قائلًا: “لا أحد ينجو من هنا.” استجمع سامر قوته وقفز إلى سيارته، وأدار المحرك بأقصى سرعة ممكنة. انطلقت السيارة في اللحظة التي شعر فيها بأن الأيادي الباردة تحاول الإمساك به من الخلف، وكأنهم يحاولون جذبه للانضمام إليهم. بعد أن انطلق سامر مسرعًا، لم ينظر إلى الخلف أبدًا، حتى بعد أن ترك المحطة بعيدًا وراءه.
عندما وصل إلى المدينة، توقف ليأخذ نفسًا عميقًا. وبينما كان يجلس في السيارة، لاحظ شيئًا غريبًا: كانت هناك صورة قديمة على المقعد بجانبها صورة لصديقها المختفي، لكن بجانبه هذه المرة كانت صورتها هي بوجه شاحب وعينين فارغتين. ريم تجمدت في مكانها عندما رأت صورتها بجانب صورة صديقها المختفي، لم تصدق ما ترى. كيف يمكن أن تكون صورتها موجودة وبتلك النظرة الباردة الشاحبة؟ قلبها ينبض بعنف والغموض يلتف حولها مثل دوامة مظلمة. حاولت أن تهدأ وتفكر فيما يجب أن تفعله، لكنها لم تستطع التخلص من الشعور بأن هناك شيئًا خطيرًا يتربص بها. قادت السيارة بسرعة محمومة ورأسها يضج بالأسئلة. وبينما كانت تتجه نحو المدينة، شعرت بوجود شيء ثقيل على كتفها. كان أحدهم يجلس في المقعد الخلفي. لم تكن تجرؤ على الالتفات، لكن شعورًا غريبًا تملكها وكأن الهواء من حولها أصبح باردًا وجامدًا. في لحظة شجاعة، التفتت ببطء، وعندها رأت ظلًا باهتًا يشبه صديقها المختفي جالسًا بهدوء يحدق بها بابتسامة غريبة.
قال بصوت شاحب وبعيد: “ظننت أنك قد تهربين، لكنك الآن جزء منا إلى الأبد.” شعرت ريم برعب يتسلل إلى أعماقها ولم تستطع التفكير بوضوح. أوقفت السيارة على جانب الطريق وحاولت الهرب، لكنها شعرت بتجمد قدميها وكأنما ربطت بالأرض. الظل اقترب منها، وكان وجهه يتحول ببطء ليصبح وجهها هي نفسها، بنظرة خاوية وابتسامة باردة مخيفة. في اللحظة الأخيرة، صرخت ريم بأعلى صوتها قبل أن يختفي كل شيء من حولها. عندما فتحت عينيها، وجدت نفسها تقف في نفس المحطة القديمة، وحدها تمامًا. لم يكن هناك سيارة ولا طريق ولا حتى ضوء بعيد، فقط المحطة والظلام الشامل.
نظرت حولها فرأت صورًا على الجدران تحتوي على صور لأشخاص كثيرين من بينهم صديقها، لكنها أدركت أمرًا مرعبًا: كانت صورتها الجديدة تتوسطهم بنظرة ميتة خالية من الحياة. منذ تلك الليلة، اختفت ريم ولم يسمع عنها أحد أبدًا. لكن السكان المحليين قالوا إنهم أحيانًا يرون ظلالًا وأصواتًا غامضة في تلك المحطة المهجورة، وإن إحدى الصور دائمًا ما تتغير، تظهر فتاة بوجه شاحب وعينين فارغتين تبتسم بنظرة خالية من الحياة وكأنها تنتظر ضحية أخرى تعبر طريقها.
في إحدى ليالي الشتاء الباردة، كان سامر يقود سيارته عبر طريق جبلي مهجور بعد يوم طويل من السفر. كان سامر يشعر بالتعب الشديد وقرر التوقف عند أول محطة وقود يصادفها لملء الخزان وأخذ قسط من الراحة. وبينما كان يسير ببطء في الطريق، لمح من بعيد أضواء محطة وقود تبدو قديمة، لكن لا يزال هناك بصيص نور ينبعث منها. عندما دخل إلى المحطة، لاحظ شيئًا غريبًا: لم يكن هناك أي أثر للعاملين أو الزبائن، فقط سكون مطبق وأصوات الرياح.
قرر النزول ليتفحص المكان، وعلى الرغم من شعوره بعدم الارتياح، توجه نحو المضخة وبدأ بتعبئة الوقود. لكن أثناء انتظاره، شعر بنظرات ثقيلة تتابعه وكأن أحدهم يراقبه من بعيد. التفت سامر فلم يجد شيئًا سوى الظلام المحيط بالمكان وبعض الأشجار المتناثرة هنا وهناك. حاول إقناع نفسه بأن ما يشعر به مجرد تهيؤات نتيجة الإرهاق، لكنه في تلك اللحظة لاحظ ضوءًا خافتًا في زاوية المحطة ينبعث من نافذة صغيرة في المتجر المهجور المتصل بالمحطة.
فضوله دفعه للتوجه نحو النافذة، وعندما اقترب منها، رأى في الداخل مشهدًا غير طبيعي: كان هناك مجموعة من الأشخاص يجلسون حول طاولة في الظلام، وجميعهم ينظرون إلى الباب، كما لو كانوا بانتظار دخول أحدهم. كانت تعابير وجوههم غير طبيعية، جامدة كأنهم دمى. شعر سامر برعشة باردة تجتاح جسده، وقرر العودة إلى سيارته سريعًا. لكن في اللحظة التي ابتعد فيها عن النافذة، سمع صوت الباب يفتح خلفه ببطء وصوت خطوات تقترب. ارتجف قلبه، لكنه استجمع شجاعته والتفت ليرى من يقف خلفه. كانت المفاجأة عندما رأى شابًا يرتدي زي عامل محطة الوقود، لكن بشرته كانت شاحبة وعيناه غارقتين في السواد.
قال له بصوت خافت ومخيف: “هل تحتاج مساعدة؟” لم يكن في الصوت أي حياة، وكأنه قادم من مكان بعيد. حاول سامر تمالك أعصابه ورد عليه قائلًا: “فقط أردت ملء خزان الوقود، سأغادر فورًا.” لكن العامل اقترب منه ببطء وقال: “لم يغادر أحد هذه المحطة من قبل، منذ أن توقفت كل السيارات هنا.” ثم أشار نحو السيارات المتناثرة التي لم يلحظها سامر من قبل. كانت هناك سيارات قديمة مغطاة بالغبار والصدأ، يبدو أنها مهجورة منذ عقود. شعر سامر بالذعر وحاول الركض نحو سيارته، لكنه شعر بأن قدميه ثقيلتان وكأنما تجذبهما الأرض.
فجأة، تردد صوت همسات من جميع الجهات، وكان المكان قد امتلأ بالأرواح المحبوسة. أحد الأصوات همس قائلًا: “لا أحد ينجو من هنا.” استجمع سامر قوته وقفز إلى سيارته، وأدار المحرك بأقصى سرعة ممكنة. انطلقت السيارة في اللحظة التي شعر فيها بأن الأيادي الباردة تحاول الإمساك به من الخلف، وكأنهم يحاولون جذبه للانضمام إليهم. بعد أن انطلق سامر مسرعًا، لم ينظر إلى الخلف أبدًا، حتى بعد أن ترك المحطة بعيدًا وراءه.
عندما وصل إلى المدينة، توقف ليأخذ نفسًا عميقًا. وبينما كان يجلس في السيارة، لاحظ شيئًا غريبًا: كانت هناك يد سوداء مطبوعة على زجاج النافذة الخلفية وأثرها لا يزال باردًا. منذ تلك الليلة، ظل سامر يخشى الاقتراب من أي محطة وقود مهجورة، وأخبر كل من يعرفه بعدم السفر ليلًا عبر الطرق الجبلية. وما زال حتى اليوم يستيقظ أحيانًا على صوت همسات تقول: “لم تغادر، أنت معنا دائمًا.”
سامر، وقد غمره الذعر، بدأ يرتجف وهو ينظر إلى يد الظل المطبوعة على نافذة سيارته. حاول أن يقنع نفسه بأن ما رآه لم يكن سوى تهيؤات بسبب إرهاقه الطويل في الطريق. أخذ نفسًا عميقًا ومسح أثر اليد السوداء محاولًا استعادة هدوئه. لكن بعد عدة أيام، بدأ يلاحظ أن شيئًا غريبًا يتكرر معه: كان يشعر بأن هناك من يراقبه حتى عندما يكون في منزله، وأن أصوات الهمسات التي سمعها في المحطة باتت تزوره في أحلامه. في كل مرة كانت تتكرر نفس العبارة المقلقة: “لم تغادر، أنت معنا دائمًا.”
ذات ليلة، وبينما كان سامر يحاول أن يغفو بعد يوم طويل من العمل، استيقظ فجأة على صوت همسات عالية في الغرفة، وكأنها صدى محبوس في عقله. رفع بصره ببطء ليجد نفس الشاب الذي رآه في المحطة يقف في زاوية الغرفة بوجهه الشاحب وعينيه الغارقتين في السواد، يبتسم ابتسامة باردة. قال الشاب بهدوء: “أنت منا الآن، كل من يقترب من تلك المحطة يعود معنا إلى الأبد.” في تلك اللحظة شعر سامر بأن الهواء من حوله بدأ يثقل، وكأن جاذبية غامضة تجذبه نحو الظلام. حاول الصراخ، لكنه لم يستطع، حنجرته تجمدت وجسده صار ثقيلًا كالصخر.
الشاب اقترب ببطء، ومد يده لتلامس كتفه. عند لمسته، أحس سامر ببرودة شديدة اجتاحت جسده بالكامل، ثم ساد الظلام التام. في الصباح، زار أحد أصدقائه منزله ليطمئن عليه بعد أن انقطع عن التواصل عدة أيام، لكنه عندما دخل المنزل لم يجد سوى فراغ وصمت مخيف، لا أثر لسامر، وكأنما اختفى تمامًا. وعلى النافذة، كانت هناك آثار يد سوداء بارزة وباردة، وكأنها تذكار من كائن جاء من عالم آخر ليأخذ سامر معه إلى الأبد.
منذ ذلك الحين، بقيت قصة سامر تُروى بين المسافرين الذين يعبرون تلك الطرقات الجبلية، محذرين كل من من يقترب من محطه الوقود المهجوره فهم يعلمون الان ان من يجرؤ على الوقوف هناك قد لا يغادر ابدا وقد يصبح جزءا من ارواح المحطه الى الابد