وصية انسي لجني
بقلم : عبده علي الفهد
نشب قتال ضاري بينهما و أشتد الصراع و تطاير الشرر داخل الكهف حتى تحولا إلى شعلة كان ياما كان في قديم الزمان ، رجل طاعن في السن في آخر أيام عمره ، يسكن في كهف في شعب من الشعاب كثير الأشجار والأعشاب ، يمر عبرة مجرى سيل عند هطول الأمطار ويبقى في قاع مجرى السيل ، سواقي مياه شحيحة تستمر حتى موسم المطر القادم ، ويمتلك عدد لا بأس به من الأغنام والماعز و يقتات على لحومها و يشرب من ألبانها ويلبس وينتعل جلودها ويفترش ويلتحف من صوفها ، ويستنير بهالها وشحومها ، حتى جلود صغارها صارت قرب مملؤة بحليبها و ألبانها.كهف الغنم ممتدة جوار كهف أصحابها و يجمع الأحطاب من وديانها وشعابها ومن حجار السيل يوقد نارها ويطعم الضيف اذا حل به ، جود النعم ، ويحمًله وقت الرحيل أمثالها ، سيرة حياته هكذا ليالها وأيامها ، حتى السباع بعهدهِ استأمنت لحياتها ، تأتي لتأخذ حظها من عظمها وجلودها ، ترعى مع الراع الغنم والليل تحرس بابها.كانت زوجته قد توفاها الله وبقى إلى جانبه أبنه الوحيد وابنته الوحيدة في الكهف.أعتلت صحته واعتراه المرض وأقعده الفراش ، و في المساء احس بانقضاء عمره ودنو أجله ، فدعاء أبنه و أجلسه إلى جواره ، وقال : يا بني انقضت الأعمار و دنت الآجال والعيش بعد اليوم محال ، أسمع مني وصيتي :لا تقطع العادات ، و لا تجير مارق ، و لا تأوي سارق ، لا تنطفئ نارك ، و لا تغلق باب دارك ، أعن الملهوف و أسدي المعروف ، لا تغمد سيفك قبل أن يغمد عدوك سيفه ، و لا تستل سيفك قبل أن يستل عدوك سيفه ، جد بما بجودك و زد ، خذ ما فاض و رد ، ليكن سيفك حاد قاطع للأوداج ، و رمحك مارق للأجساد والأبراج ، قُص قبل أن تُقص ، رِص قبل أن تُرص ، تعقب المُتعقب ، ترقب المُترقب ، لا تهلك الهالك ، و لا تُبدد مالكلا تسكن مضيق ، ولا تقطع طريق ، لا تثق بجمًال و لا تجاور رمًال ، لا تشكر صانع ، ولا تُطعم شابع ، لا تجهل عالم ، ولا تفزع نائم .وختام وصيتي أن تكون بار بأختك ، زائر غير بائر ، مِعين غير مُهين ، و إن أتى طالبها فمُد يده فلا تردده ، لا تسأل عن أباه و عن جده ، أين داره ، عن اسمه ، لا تلتفت إلى منظره أو شكله ، لا تطلبه درهم لها أو ديناً ، شرطي الوحيد أن لا يكون له زنار.حينها تحشرج وقُطعة أنفاسه و رحلت روحه إلى بارئها و أغمض عينيه.كان في سقف الكهف فوق رأسه عفريت من الجان يستمع الوصية ، قام الابن واخته بتجهيز جثة والدهم و دفنه على مقربة من الكهف الذي يسكنوا فيه.بعد فترة وفي مساء احدى الليالي المظلمة و بينما هما نائمان فإذا بمناد ينادي على باب الكهف : يا معدور يا معدور : أنا صاحب الوصية ، اعطني زوجتي صفصاف .اندهش من هذا الصوت وقال في نفسه : كيف يعرف إسمي و أسم أختي وما أدراه بالوصية ؟ فلم يكن يوجد أحد وقت الوصية.تردد ولم يجيب عليه وصحيت أخته وطلبت من أخيها عدم إجابته.فكرر النداء عدة مرات ، فاضطر معدور أن يجيب وقال : ها أنا قادم ، و أثنا قدومه باتجاه باب الكهف مصدر الصوت استحضر في ذهنه وصية والده بأن لا يسأل عن اسمه أو أبيه أو جده أو داره و لا يكترث لشكله أو لونه ، فقط يتأكد من عدم وجود زنار ، كان الجو مظلم وعندما اقترب منه لم يشاهد تفاصيل شكله و إنما شاهد شكله كالظل ، فمد يده إلى صابره وتحسس جوار أذنيه لغرض التأكد من عدم وجود زنار ، وبعد أن تحسس وجد أن رأسه بالكامل بدون شعر .فقال : تفضل ، أدخل ، فدخل ، و بعد إشعال المسرجة بجهد جهيد أنذهل معدور و أخته من شكله المخيف ، كان أسود مفلطح العينين واسع المنخرين له نابان بارزان كأنياب النمر ،وجمجمة مدحرجة بدون شعر ، بدون رقبة و كأن راسة مغروس بين كتفية ، جسده الأسود يكسوه الشعر الأبيض إلى خاصرته ، ومن تحت يرتدي جلد نمر ، حافي القدمين طويل الأظافر كمخالب النسور ، وفي جبهته بين الحاجبين منقار غراب.هالهما ما رأوه ، فأعاد طلبه موجهاً كلامه إلى صفصاف ، قائلاً : هيا تحركي يا زوجتي ، ومد يده باتجاهها ، فحاول معدور منعه من الاقتراب منها ، فانتفخ و ثار و زأر ، وهدد بإحراق الكهف بما فيه إن لم تنفذ وصية والدهم فوراً.أحتار معدور ، لكن وصية والده كانت هي الخيار الوحيد ، فأشار على أخته بضرورة تنفيذ وصية أبيه أن مخالفة الوصية ستكون وبال عليهم فلا قبل لهم بمواجهة هذا المارد ، فطلبا منه البقاء إلى الصباح .فصاح و لاح ، الأن ، الأن.فاستسلم معدور وتقدم العفريت نحو صفصاف و أمسك بخاصرتها وحملها تحت أبطه وخرج من الكهف ، مباشرةً خرج معدور ليقتفي اثره ، وبلمح البصر اختفى العفريت وصفصافعاد معدور وبقى حزين فترة من الزمن وتذكر وصية والدة بأن يكن بار بأخته يزورها، فاحتار فهو لا يعرف المكان الذي هي فيه ، واستمر الحال فترة من الزمن.صفصاف حملها العفريت تحت أبطه وطار بها إلى ضاحة حيد و أدخلها فيه ، كان فتحة صغيرة بشكل مثلث ومن الداخل شكل بيت ، داخل الحيد سراديب مليئة بالعظام والجماجم و روث الدواب ، وضعها فيه وقال : هذا بيتنا.وقدم لها عظام طرية بها أثار دم وجمجمة طفل وقال : كلي المخ و الدماغ.فرفضت صفصاف وقالت : أكلنا غير هذا.فذهب برهة و أحضر طعام بشر فأكلت .واستمرت معه ، وكان يتحول إلى صقر ويخرج عند حلول الظلام ويعود قبل بزوغ الفجر حاملاً معه عظام وجماجم و روث وطعام لصفصاف.بعد مدة عاد فوجد صفصاف تبكي ، فسألها عن السبب ؟.فقالت : اشتقت لزيارة أخي ، فتعهد لها بأن يسمح لها بالزيارة.ومع بزوغ الفجر أوصلها إلى باب الكهف وذهب ، كانت صفصاف قد لاحظت الحيد الذي تسكن فيه و ارتفاع الفتحة عن مستوى الأرض ، فتعرفت على المكان وهي على ظهر العفريت.دخلت صفصاف الكهف و وجدت معدور نائم إلى جوار إمرأة و عرفت أن أخيها قد تزوج نادت : معدور ، ففزع وصاح : صفصاف ففرح بقدومها وسألها : أين بيتكم يا صفصاف ، أين زوجك ؟ .فلم ترد عليه و ظلت صامتة.فقالت : من تلك المرآة ؟ فقال هي زوجتي ، فأيقظها وعرّفها على أخته ، وعند غروب الشمس أخبرت صفصاف معدور بأن موعد زيارتها سينتهي بعد منتصف الليل و أن زوجها سيأتي لأخذها.فاستغرب معدور و أصر عليها بأن تخبره عن بيت زوجها ولماذا يأتي بعد نصف الليل لأخذها ؟.فحكت له القصة و أن زوجها عفريت من الجان يسكن حيد النسور ، و أنه وقت الوصية كان في سقف الكهف يستمع كلام والدهما.فعزم معدور على تخليص أخته من ذلك العفريت وطلب من صفصاف مساعدته ، اعترضت صفصاف على الفكرة وقالت : أنك لا تقدر على العفريت.أصر معدور على إنقاذ أخته حتى لو كلفه حياته ، حددت صفصاف لأخيها مكان الفتحة في الحيد و وقت خروج العفريت و دخوله ، و طلبت من أخيها أن يعطيها حبل من أجل أن تمده اليه إلى أسفل الحيد ليصعد عليه إلى الفتحة ، فأعطاها الحبل ، و وضعته مع بعض الطعام مخفي وقالت لأخيها : قبل حلول الظلام كن موجود تحت الحيد و راقب الفتحة التي سيخرج منها العفريت و أبقى تحتها وسوف أرمي اليك الحبل.بعد نصف الليل أتى العفريت و وقف باب الكهف ونادى صفصاف فخرجت اليه ، فحملها وطار بها إلى الحيد ومعها الطعام والحبل مخفي ، وفي مساء اليوم التالي ذهب معدور إلى تحت الحيد وبقي تحت الحيد حتى حل الظلام فسمع صوت فتحة الحيد فعرف مكان الفتحة وشاهد الصقر يخرج منها وطار ، فاصدر صافرة ، و قامت صفصاف برمي الحبل ، فتسلق معدور الحبل إلى أن دخل إلى عند صفصاف ، فأخفته في سرداب بين العظام ، وعندما عاد العفريت قبل الفجر دخل فصال وجال وانتفض وقال : أشم رائحة إنسي لن يمسي إلا تحت ضرسي وفتش ودار ، ودب الرعب في نفس صفصاف على أخيها.فقالت : اهفش يا سيد الجان إن هذه الرائحة رائحة الطعام الذي أتيت به من بيت أخي.فصدق ما قالت ، فأكل جمجمة حمار وهي تقوم بترتيب العظام محاولة التلطف اليه وبادلته الحديث فقالت: يا سيد الجان إنكم معشر الجان لكم صفات فريدة ليست عندنا نحن البشر ، لكم القدرة على التلون والتشكل بشكل الطيور والقطط والثعابين والحيوانات والتحول إلى نار أو ماء أو دخان ، ولكن أنا مستغربة كيف كان نبي الله سليمان يحبسكم داخل القماقم الصغيرة والقوارير ويرميكم داخل البحر ؟ فكيف كان مثل هذا لقمقم الصغير الذي في يدي يتسع لعفاريت كبار مثلك ؟ هذا مستحيل .انتفخ العفريت وقال : نحن نتحول إلى دخان وندخل داخل القمقم بسهولة.قالت : أنا لا أصدق.فقال : افتحي القمقم الذي في يدك وسأريك.ففتحت بسرعة القمقم وحطته بيد والغطاء باليد الأخرى.فتحول العفريت إلى دخان وغزل فنزل إلى داخل القمقم حتى اكتمل ،فوضعت الغطاء على القمقم و أحكمت إغلاقه و وضعته في أرضية الكهف ، ثم أخرجت معدور من تحت العظام وباتا حتى الصباح ومدا الحبل ونزلا به من الضاحة تاركين العفريت داخل القمقم بالكهف.عاد معدور وصفصاف إلى الكهف ولم يخبرا زوجة معدر بما حدث .وظنا أنهما تخلصا من العفريت ، وبعد فترة من الزمن تبين لصفصاف أنها حامل من العفريت ، أخبرت أخاها معدور فاتفقا على التخلص من الحمل ، عملا كل الحيل لإسقاطه لكن دون جدوى ، فاتفقا على إخبار زوجة أخيها بأنها حامل من زوجها و أن زوجها ذهب للغربة.صدقت زوجة معدور .استمر الحمل يكبر ومر عام ولم تلد صفصاف و استمرت بمحاولات إسقاطه دون جدوى.مضى العام الثاني ولم تلد ، وفي نهاية العام الثالث ولدت مولود عجيب ، كان ذكر جميل الخلقة مكتمل ، شعر الرأس بلون ابيض كالشيب ، و احدى رجليه رجل صقر بمخالب ، فكان يشب بسرعة فائقة وبعد شهران مشى و أكل الطعام ونطق بالكلام ، وكان له قوة خارقة ،كان حين يجمع الأحطاب يقتلع الشجر العملاقة بيد واحدة ثم يرفعها ويأتي بها إلى أمام الكهف و كأنها شجرة قائمة تمشي في الهواء ، شب وكبر وكان كثير السؤال لأمه عن أبيه ؟فكانت إجابتها له : إن أباك ذهب في الغربة ولم يعد ، طلبت منه أن يبني لها بيت من الصخور ، فلبا طلبها ، و في بضعة أيام كان قد بناء لها قصراً بأحجار عملاقة ، إلا أنه لم يصدق غربة أباه ، فأصر على أمه أن تصدقه القول من أباه وأين هو ؟.وقبض على خاصرتها بقبضته و رفعها وقال: إن لم تخبريني سأعصرك .فصاحت : فكني و سأخبرك ، أباك عفريت من الجان محبوس بالكهف بالحيد داخل قمقم.وضعها على الأرض ثم اتجه للحيد و تسلقا و دخلا إلى الكهف ، فشاهدا القمقم مكانه والدخان داخله ، فتقدم و أخذ القمقم وفتحه ، فخرج العفريت وانتفض وصاح :من أنت ، ولماذا دخلت بيتي ؟.حاول الأبن أن بشرح له أنه أبنه لكن دون جدوىفقد كان غضب العفريت أكبر.وقال من : أين لي أبن و زوجتي هذه لم تلد ؟.ونشب قتال ضاري بينهما و أشتد الصراع و تطاير الشرر داخل الكهف حتى تحولا إلى شعلة من لهب ، ثم انتهى الأمر بتحولهما إلى كوم رماد.وانتهى أمر العفريت و أبنه وبقيت صفصاف حتى أتى معدور و أنزلها و ذهب بها إلى قصرها فعاشت بقية عمرها حتى توفاها الأجل دون أن يتجرأ أحد على الزواج منها بعد العفريت.
النهاية ……
تعليق واحد